القدس المحتلة- أعاد الشرطي المصري محمد صلاح -الذي استشهد السبت الماضي بعد عملية قُتل فيها 3 جنود إسرائيليين عند نقطة حراسة على الحدود المصرية الفلسطينية- إلى أذهان الكثيرين قصص استبسال مصريين من جنود وضباط ومتطوعين في الدفاع عن فلسطين، وخوضهم معارك عدة في القدس ومحيطها إبان حرب عام 1948 (النكبة).
ووثق المعمر المقدسي محمد جاد الله في كتابه “100 عام من حياتي” الكثير من هذه القصص التي بدأت بـ”همة” المصريين في تهريب السلاح عبر الصحراء الغربية من منطقة مرسى مطروح، حيث كان يتم جلب بقايا أسلحة الجيوش من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وكانت الأسلحة صدئة ومليئة بالرمال وذخيرتها شحيحة.
وبالتزامن مع ذلك جاءت وحدات من الإخوان المسلمين من مصر بقيادة اليوزباشي محمود عبده والملازم عوض زعزع وخطّاب وغيرهم من الجنود والضباط المصريين، وبدأ التنسيق بين أبناء بلدة صور باهر المقدسية، وبالتحديد مع “السرية الرابعة، الفوج الثالث من جيش الجهاد المقدس بقيادة الزعيم الفلسطيني عبد القادر الحسيني”.
التحام بالأرض المقدسة
تعاون المصريون وشاركوا في التدريب والحراسة وحفر الخنادق وإقامة “الدُشم” العسكرية (سواتر رملية أو إسمنتية)، وكان لقيادتهم 3 مقرات في كل من بيت جالا وبيت لحم وصور باهر، وتحصنوا جنبا إلى جنب مع أهالي البلدة على طول الخطوط الأمامية للمستعمرات اليهودية المقابلة لصور باهر وأم طوبا وجبل المكبر بمحيط القدس.
ويذكر المعمر جاد الله أن متطوعي “الإخوان المسلمين بقيادة اليوزباشي محمود عبده كان عددهم 60 فردا وكانوا مرتبطين بالجيش المصري الذي كان المسؤول عنه يلقب بـ”الضبع الأسود” وكان على مستوى عسكري متقدم”.
ليالٍ كثيرة مرت دون أن يغادر المصريون مواقع الحراسة، وكانوا يردون بإطلاق النار من الخطوط الأمامية كلما انطلقت النيران من المستعمرات القريبة.
ومن مشاهد الصمود التي وثقها جاد الله أسر ضابط مصري في إحدى المعارك التي دارت مع العصابات الصهيونية، وعندما تقرر الإفراج عنه بموجب اتفاقية بين الطرفين استدعاه ضابط إسرائيلي وسأله “هل كنت مع الإخوان المسلمين التابعين للجيش المصري في صور باهر؟ فرد عليه الضابط المصري بسؤاله: لماذا تسأل؟ فأجاب: أريد أن أعرف سبب فشلنا في اقتحام الخطوط الأمامية لدخول صور باهر”.
الشهادة.. الأمنية الجماعية
كانت إجابة الضابط المصري صادمة حينما قال “أمنية كل فرد من المناضلين والإخوان الموجودين في الخطوط الأمامية على جبهة صور باهر هي الشهادة، وسبب فشلكم أيضا هو طاعتنا العمياء للضباط والقيادة المصرية”.
وفي حادثة أخرى، أصيب في إحدى المعارك الشيخ مكاوي -وهو ملازم مصري- بإصابة طفيفة، فالتفت إلى المقدسي محمد جاد الله، وقال له “يا ليتها كانت القاضية وكسبت الشهادة في سبيل الله”.
وفي مساء اليوم ذاته شارك مكاوي في إحدى المعارك بقرية شرفات المجاورة لصور باهر واستشهد مع 3 من رفاقه بعد تعرضهم لقذيفة هاون، ودفنوا في المقبرة الإسلامية بمدينة بيت لحم، وبعد انسحاب الجيش المصري من الخطوط الأمامية حمل معه رفات كل شهدائه إلى بلدهم.
تعلق الجنود والمتطوعون المصريون ببلدة صور باهر، وكانوا يرددون مع أبناء البلدة المناضلين “يا فلسطين، اذكرينا سجلينا في الكتاب.. سجلي من استشهد وجرح في الجبال والوديان”.
لم يبرح الجيش المصري مكانه وصمد في الخطوط الأمامية، وخاض عدة معارك مع العصابات الصهيونية في كل من صور باهر وجبل المكبر وبمستعمرات تلبيوت وأرنونا ورامات راحيل.
ووفقا للمعمر المقدسي، كانت القيادة المصرية تصرف لقوات الجهاد المقدس (مقاومة فلسطينية وعربية) المواد الغذائية كما تصرفها للجنود المصريين.
معارك وأسر صهاينة
عجت السيرة الذاتية لمحمد جاد الله بقصص استبسال كثيرة رفض قائد القوات المصرية إلا أن يكون مشاركا فيها لا قائدا فحسب.
ومن المعارك التي شارك فيها اليوزباشي محمود عبده المعركة التي جرت عند مقر الكلية العربية في القدس، والتي حاصرتها العصابات الصهيونية من الجهة الغربية وانهمر رصاص رشاشاتها باتجاه القوات العربية القادمة للتصدي لها، وبينها قوات محمود عبده الذي أصيب في هذه المعركة.
وبعد قليل انخرطت المدفعية المصرية الثقيلة في المعركة وأوقعت خسائر فادحة في صفوف العصابات الصهيونية التي انسحبت بالكامل من المنطقة، وتم أسر 10 من أفرادها بعد محاولتهم الهرب ونقلوا بمركبة عسكرية مصرية إلى مقر القيادة الرسمية في بيت لحم.
يقول جاد الله “في هذه المعركة شاهدت عشرات القتلى اليهود على الأرض، وتحت ضغط المدفعية المصرية هرب من هرب ومات من مات، وأمام مقر المندوب السامي البريطاني استسلم عدد منهم وتم أسرهم ونقلهم لمقر القيادة المصرية”.
عملية كبيرة أخرى لم تمحَ من ذاكرة محمد جاد الله، وهي تلك التي حضّر فيها لغما كبيرا معدا من مادة “تي إن تي” (TNT) في الشهر السابع من عام 1948، وتمت هذه العملية بتنسيق بين القوات المصرية والجهاد المقدس وقادها الملازم المصري ضيف الله مراد الذي استشهد في هذه المعركة بعد نسف بناية من طابقين استولت عليها العصابات الصهيونية، وأقامت حولها منطقة عسكرية محصنة وأحاطتها بالرشاشات الثقيلة التي استهدفت كلا من صور باهر وجبل المكبر ومنطقة غزيّل.
بعدما وضعت الحرب أوزارها واستلم الأردن الحكم في شرقي القدس انسحب المصريون الذين رابطوا في القدس واستبسلوا في الدفاع عنها واختلطت دماؤهم بترابها.
وعن ألم وداعهم ومغادرتهم، كتب جاد الله “بعد رصيدنا الطويل في النضال أمام المستعمرات وتقديم الشهداء والجرحى والصمود على هذه الأرض انسحب إخواننا المصريون والعرب ووجدنا أنفسنا وحيدين دون القوات العربية نواجه مصيرا أكثر قتامة”.