رحلة العلاج تبدأ بالتشخيص
داء شاغاس.. العدو الصامت في زوايا الإهمال الصحي
في زوايا خفية من عالمنا المعاصر، حيث تتداخل خيوط الفقر والإهمال الصحي، فيتربص عدو صامت يفتك ببطء بعشرات الضحايا، ويطلق عليه: طفيلي “المثقبية الكروزية” المسبب لمرض شاغاس.
ويحتفي العالم في الرابع عشر من أبريل كل عام، بتلك الحالة النادرة، رغبة في القضاء عليها، حفاظاً على صحة الإنسان في كل مكان بالعالم، لنستذكر هذا الداء المنسي في “اليوم العالمي لمرض شاغاس”، ليس بإحصاء أعداد الضحايا فحسب، بل لنكسر جدار الصمت الذي يحيط بهذه الجائحة الخفية، ونعيد إشعال شعلة الاهتمام العالمي بها.
حكاية طفيلي وتداعيات مدمرة
لا يقتصر مرض شاغاس على كونه مجرد عدوى تنتقل عبر حشرة “البق القاتل” كما يُطلق عليها أحيانًا. إنه قصة أعمق بكثير، تتشابك فيها العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية لتشكل حلقة مفرغة من المعاناة، فلنتخيل مجتمعات مهمشة، تعيش في مساكن متواضعة ذات شقوق وجدران طينية، توفربيئة مثالية لتكاثر هذه الحشرات، وتخيل أفرادًا لا يحصلون على الرعاية الصحية اللازمة، لتتحول لدغة بسيطة إلى قنبلة موقوتة تهدد قلوبهم وأجهزتهم الهضمية بعد سنوات من الكمون الصامت.
أرقام تتجاوز الإحصائيات
قد لا تتصدر أرقام الإصابة بمرض شاغاس عناوين الأخبار الرئيسية، لكنها ترسم لوحة قاتمة لحياة الملايين، وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 7 ملايين شخص حول العالم مصابون بطفيلي “المثقبية الكروزية”، معظمهم في أمريكا اللاتينية، ويتسبب المرض في أكثر من 10,000 حالة وفاة سنويًا.
على الرغم من أن مرض شاغاس كان يُعد في السابق محصورًا في أمريكا اللاتينية، إلا أنه ينتشر بشكل متزايد في مناطق أخرى بسبب الهجرة العالمية، حيث يُوجد الآن مصابون بالمرض في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وأستراليا واليابان.
الأرقام ليست مجرد إحصائيات؛ إنها قصص إنسانية مؤلمة، إنها حكايات عن أطفال ينمون بقلوب ضعيفة، وشباب يعانون من مضاعفات تهدد حياتهم في أوج عطائهم، وعائلات بأكملها ترزح تحت عبء مرض مزمن وغير مفهوم. يُقدر أن أكثر من 100 مليون شخص يعيشون في مناطق معرضة لخطر الإصابة بالمرض.
وضع مرض شاغاس في المملكة
وفقًا لأحدث بيانات منظمة الصحة العالمية المنشورة في عام 2020، ويشير معدل الوفيات المعدل حسب العمر إلى 0.00 لكل 100,000 نسمة، مما يضع المملكة في المرتبة 147 عالميًا في هذا المؤشر.
تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأمراض المدارية المهملة (NTDs)، التي قد يشمل بعضها حالات إصابة بمرض شاغاس لم يتم تشخيصها بشكل محدد، تتركز بشكل أكبر في المناطق الغربية والجنوبية الغربية من المملكة، وهي مناطق معروفة بعوامل بيئية واجتماعية اقتصادية قد تساهم في انتقال الأمراض، إلا أن منظومة الوقاية في المملكة تعمل بشكل جيد، تحد من انتشاره، بحسب منظمة الصحة العالمية.
من المهم الإشارة إلى أن قلة البيانات المتاحة لا تعني بالضرورة عدم وجود حالات إصابة بمرض شاغاس في المملكة، فقد تكون هناك حالات لم يتم تشخيصها أو الإبلاغ عنها، خاصة مع حركة السفر والهجرة، وهناك حاجة إلى مزيد من الدراسات والمسوحات لتحديد مدى انتشار المرض بشكل دقيق في المملكة.
التشخيص المبكر والعلاج حق وليس رفاهية
على الرغم من الصورة القاتمة، هناك بصيص أمل يلوح في الأفق. التشخيص المبكر لمرض شاغاس، خاصة في المراحل الحادة، يمكن أن يؤدي إلى علاج فعال يمنع تطور المضاعفات الخطيرة. تتوفر أدوية مثل بينزنيدازول ونيفورتيموكس قادرة على قتل الطفيلي، وتكون أكثر فعالية في المراحل المبكرة من الإصابة، وحتى في حالات الانتقال الخلقي من الأم إلى الجنين، ولكن الوصول إلى هذه الأدوية لا يزال يمثل تحديًا كبيرًا في العديد من المناطق المتضررة.
إن اليوم العالمي لمرض شاغاس يعد فرصة لنقول بصوت عالٍ: “التشخيص المبكر والعلاج ليسا رفاهية، بل هما حق أساسي لكل إنسان. إنه نداء لتكثيف جهود الفحص، وتوفير العلاج بأسعار معقولة، وتدريب الكوادر الطبية للتعرف على أعراض المرض وتشخيصه في مراحله المختلفة”.
دور الإعلام والمجتمع المدني
المعركة ضد مرض شاغاس ليست مسؤولية الأنظمة الصحية والحكومات وحدها، فللإعلام والمجتمع المدني دور محوري في كسر حاجز الصمت الذي يحيط بهذا المرض. تسليط الضوء على قصص المتضررين، نشر الوعي حول طرق الانتقال والوقاية (التي تشمل مكافحة حشرات البق، وتحسين ظروف السكن، وفحص الدم المتبرع به، وفحص النساء الحوامل والمواليد)، ومناصرة حقوق المرضى، كلها خطوات ضرورية لدفع المجتمع الدولي إلى التحرك بشكل أكثر فعالية.
شراكة عالمية لمستقبل خالٍ من شاغاس
اليوم العالمي لمرض شاغاس ليس مجرد مناسبة للتذكير، بل هو دعوة للعمل. إنه نداء إلى الحكومات لزيادة الاستثمار في برامج مكافحة المرض والبحث العلمي، إنه نداء إلى المنظمات الدولية لتعزيز التعاون وتنسيق الجهود. ونداء إلى الأفراد ليكونوا جزءًا من الحل من خلال دعم المنظمات العاملة في هذا المجال ونشر الوعي في محيطهم.
فلنجعل من هذا اليوم نقطة تحول في مسيرة مكافحة مرض شاغاس. لنرفع أصواتنا تضامنًا مع المتضررين، ولنعمل معًا لخلق مستقبل خالٍ من هذا الوباء الصامت. لأن كل حياة تستحق أن تُعاش بصحة وكرامة.
وترجع تسمية هذا المرض بهذا الاسم، نسبةً إلى كارلوس شاغاس، الطبيب والباحث البرازيلي الذي شخّص المرض لأول مرة في 14 أبريل 1909.
ويُمكن علاج داء شاغاس إذا بدأ العلاج المضاد للطفيليات مبكرًا، في المرحلة الحادة، أما في العدوى المزمنة، فيمكن للعلاج والمتابعة أن يمنعا تطور المرض أو يحدّا من انتقاله، كما هو الحال أثناء الحمل والولادة، وبدون التشخيص والعلاج المبكر، يصاب ما يصل إلى ثلث الأشخاص المصابين بالعدوى المزمنة بتغيرات في القلب ويصاب 1 من كل 10 بتغيرات في الجهاز الهضمي أو العصبي أو مختلطة والتي قد تتطلب علاجًا محددًا.
وتشمل الاستراتيجيات الرئيسية للوقاية من مرض شاغاس مكافحة النواقل، وفحص الدم قبل نقل الدم وزراعته؛ واختبار وعلاج الفتيات والنساء في سن الإنجاب والمواليد الجدد وإخوة الأمهات المصابات بالعدوى، والتشخيص المبكر قدر الإمكان والمتابعة الشاملة والرعاية الصحية، والمعلومات والتثقيف والتواصل للمجتمعات والعاملين في مجال الصحة، وقد يُؤدي التشخيص الخاطئ أو المتأخر، مع غياب العلاج والمتابعة أو عدم اكتمالهما، إلى تحول هذه العدوى إلى حالة تُهدد الحياة، في أكثر من 21 دولة حول العالم، وإن كانت الإصابات الكبرى تتركز في أمريكا اللاتينية.