تواجه الصناعة في سوريا خلال المرحلة الراهنة صعوبات وتحديات جراء تدمير البنية التحتية والعقوبات الاقتصادية والانكماش العام في الاقتصاد، لكن مع تشكيل الحكومة الجديدة ثمة نافذة أمل لإعادة بناء هذا القطاع الحيوي، وفق خبراء.
ولدى سوريا مقومات صناعية متنوعة، مما جعلها تاريخيا دولة ذات قاعدة صناعية قوية، خاصة في المجالات التحويلية والنسيجية والغذائية، وعلى الرغم من الدمار والضعف الذي أصاب القطاع فإنه لا تزال ثمة مقدرات تشكل الركيزة الأساسية لإعادة النهوض بالقطاع مستقبلا.
ومن المقرر أن تضطلع الحكومة السورية بمسؤولية إعادة إحياء الصناعة السورية وتعزيز دورها في الاقتصاد الوطني عبر اعتماد سياسات اقتصادية متكاملة تستند إلى رؤية إستراتيجية تستطيع أن تستثمر في المقومات الموجودة، وتؤسس بيئة صناعية جاذبة للمستثمرين المحليين والدوليين.
الكهرباء
تعاني سوريا من أزمة كهرباء خانقة لم تكن وليدة الحرب، بل هي استمرار لأزمة تمتد لعقود لم تصل خلالها إلى الاكتفاء الذاتي، وقد شكّل انهيار البنية التحتية لقطاع الكهرباء السبب المباشر في تراجع الإنتاج بعد تدمير أكثر من 30 محطة طاقة في البلاد وتعرّض ما لا يقل عن 40% من خطوط الجهد العالي في البلاد للتلف.
يضاف ذلك إلى نقص الوقود اللازم لتشغيل المحطات (الفيول) الذي يشغّل المحطات الحرارية، والعقوبات الدولية، ولا سيما على قطاع الطاقة والقطاع المالي، مما زاد حدة الأزمة.
ويقول الباحث مناف قومان المتخصص في الشأن الاقتصادي السوري بمركز عمران للدراسات في إسطنبول إن تسعيرة الكهرباء تشكل عائقا رئيسيا أمام استقرار الصناعة.
ويشير قومان للجزيرة نت إلى أن سعر الكيلوواط في الساعة للمصانع في حلب يبلغ 27 سنتا أميركيا، وهو أعلى من متوسط سعره في الدول القريبة والمناطق المحيطة، مثل مصر التي يباع الكيلوواط فيها للصناعيين بـ5 سنتات، وتركيا بـ8 سنتات، أما في مناطق شمال حلب وإدلب (مناطق المعارضة سابقا) فيبلغ 12 سنتا.
ويقول قومان إن مدينة الشيخ نجار الصناعية (في محافظة حلب) -والتي تضم نحو 960 منشأة عاملة- تعاني من نقص في الإمداد الكهربائي، إذ تحتاج إلى 120 ميغاواطا يوميا، في حين لا يتجاوز المتاح 80 ميغاواطا، كما تعاني المصانع من ارتفاع تكلفة الفيول الذي وصل سعر الطن منه إلى 630 دولارا، بالإضافة إلى عدم توافره طوال الوقت، مما يؤدي إلى استمرار مشكلة الطاقة.
غياب الاستقرار النقدي
ويرى قومان أن التقلبات الحادة في سعر صرف الليرة أمام الدولار أحد أبرز التحديات التي تواجه الصناعيين في سوريا، فالتذبذب الكبير في سعر الصرف يعرقل التخطيط المالي ويزيد صعوبة اتخاذ قرارات الإنتاج، مما يخلق حالة من عدم اليقين المالي.
وتؤثر هذه التقلبات على هيكل الأجور والرواتب مباشرة، فيصعب على أصحاب المصانع تحديد مستويات دخل ثابتة للعاملين، مما أدى إلى اضطرابات في حساباتهم، ودفع العديد منهم إلى فصل عمال بشكل كامل أو مؤقت إلى حين استقرار سعر الصرف.
من جانب آخر، تشير تقارير إلى أن تقييد عمليات السحب النقدي أمام أصحاب المصانع ضمن السياسة النقدية الحالية أضعف قدرتهم على توفير السيولة اللازمة لتشغيل مصانعهم ودفع رواتب العمال.
ويرى قومان أن الصناعيين الذين يعتمدون على استيراد المواد الخام يواجهون صعوبات في تحديد الأسعار النهائية لمنتجاتهم وتقدير التكاليف التشغيلية إثر تقلّب سعر صرف الليرة مقابل الدولار، مما يضعف قدرتهم على المنافسة في السوق المحلية والخارجية.
بنية مدمرة
وشهدت سوريا دمارا واسعا في البنية التحتية، إذ تم تخريب 4626 كيلومترا من الطرق و51 جسرا و66 برج اتصالات و72 محطة مياه، فضلا عن تدمير شبكات صرف صحي بطول 7393 كيلومترا.
وحسب تقرير نشرته منصة الطاقة المتخصصة، تضرر ما يزيد على 50% من البنية التحتية لمنظومة الطاقة الخاصة بإنتاج النفط والغاز.
وتعرضت الموانئ السورية -خاصة ميناء اللاذقية (غربي البلاد)- لأضرار مادية نتيجة الهجمات الإسرائيلية المتكررة في ديسمبر/كانون الأول 2021، مما أدى إلى حرائق وأضرار مادية جسيمة.
ويقول الباحث عبد العظيم المغربل إن عدم جاهزية البنية التحتية يؤخر عملية تطور القطاع الصناعي، فما زالت الموانئ والطرقات تقلل مرونة عمليات الاستيراد والتصدير.
العقوبات الاقتصادية
ويضيف المغربل للجزيرة نت أن الصناعة السورية تواجه واقعا صعبا ومليئا بالتحديات التي تعيق نموها وتعافيها بشكل واضح، إذ تشكل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا من قبل دول عدة أحد أبرز هذه التحديات وأشدها تأثيرا.
ويؤكد المغربل أن العقوبات تسببت في تقييد حركة التجارة الخارجية وعرقلة استيراد المعدات الصناعية اللازمة للإنتاج، كما حدت من قدرة المصانع السورية على تسويق منتجاتها في الأسواق الخارجية.
ويضاف إلى ذلك ضعف كبير في البنية التحتية الصناعية، خاصة في قطاعات الطاقة والكهرباء والنقل، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع تنافسية المنتج السوري محليا وخارجيا.
مقومات الصناعة
تمتلك سوريا المقومات اللازمة لإعادة تنشيط القطاع الصناعي البلاد، وتشمل:
1- الموارد الطبيعية المحلية
تشكل الموارد الطبيعية مصدرا رئيسيا لإيرادات الدولة، وقد تساهم في تأمين المواد الخام اللازمة للقطاعات الصناعية إذا ما رُفعت عنها العقوبات.
ويعد النفط أبرز موارد الدولة، إذ بلغت الاحتياطيات السورية المؤكدة بحسب مجلة الطاقة الأميركية نحو 2.5 مليار برميل.
كما يشكل الفوسفات أهم الموارد، إذ تقدّر احتياطيات الدولة بنحو 1.8 مليار طن حسب الأرقام الصادرة عن شركة الفوسفات والمناجم السورية، وكانت البلاد تنتج نحو 3.5 ملايين طن من الفوسفات سنويا، مما يجعلها أحد أكبر منتجي الفوسفات في العالم.
2- الموقع الجغرافي
سوريا في موقع جغرافي يسمح لها بأن تكون عقدة لطرق التجارة الدولية البرية والبحرية، فهي تعد حلقة الوصل بين قارتي آسيا وأوروبا وبين أسواق الخليج العربي وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وهذا الموقع يوفر للبلاد المرونة والسهولة للوصول إلى الأسواق الدولية المنتجة والمستهلكة.
3- الأراضي الزراعية
حسب دراسة منشورة في مركز كارنيغي تبلغ مساحة سوريا 18.5 مليون هكتار، وتشكل المساحة القابلة للزراعة ومساحة الغابات نحو 6.5 ملايين هكتار، وهو ما يشكل 32.8% من المساحة الإجمالية للبلاد، ويشتغل في الزراعة أكثر من 20% من السوريين، وتزرع الحبوب والخضار والفواكه والزيتون والقطن.
لكن القطاع يواجه تحديات تمويلية، وحسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، فإن تقديرات التكلفة المبدئية لاعادة تهيئة القطاع الزراعي تصل إلى ما بين 10.7 مليارات دولار و17.1 مليارا.
قطاعات واعدة
1- قطاع الصناعة الغذائية
تمتلك سوريا وفرة متنوعة من السلع زراعية تسمح لها بالتوسع في صناعات تعتمد على تحويل المحاصيل الزراعية الأساسية إلى منتجات غذائية، ويشير عبد العظيم المغربل إلى أن قطاع الزراعة في سوريا سيكون له دور في تنشيط العمل الصناعي، ولا سيما المتعلق بمنتجات القمح.
2- قطاع الصناعة النسيجية
عُرفت سوريا تاريخيا بالصناعات النسيجية المتعلقة بصناعة الأقمشة والسجاد والملابس الجاهزة والمنسوجات التراثية التقليدية.
ويشير المغربل إلى أن إعادة إحياء هذا القطاع الحيوي من خلال إدخال تكنولوجيا حديثة وتوفير تسهيلات حكومية وتشجيعات استثمارية سيساهمان في زيادة فرص العمل وإعادة فتح الأسواق التي كانت في السابق تفضل المنتج السوري بسبب جودته العالية وأسعاره المنافسة.
3- الصناعة الدوائية
أشار بحث منشور للباحثة مدى سليم في مركز روبرت شومان للدراسات العليا في الجامعة الأوروبية بفلورنسا الإيطالية تحت عنوان “صناعة الأدوية في سوريا بين التحديات والتداعيات” إلى أن قطاع الصناعات الدوائية كان من أبرز المجالات التي كانت تشهد تطورا في البلاد.
وأكدت الدراسة أن الصناعات الدوائية وفرت على البلاد ملايين الدولارات بدلا من استيراد الأدوية من الخارج.
وشكلت صناعة الأدوية أحد أهم استثمارات قطاع التصنيع الخاص في العقد الأول من القرن الحالي، وقد وظفت هذه الصناعة أكثر من 17 ألف وظيفة، وصدّرت بقيمة 210 ملايين دولار سنويا، وبذلك تعد سوريا ثاني أكبر مصدّر عربي للأدوية بعد الأردن.

متطلبات تعزيز الصناعة
ويرى قومان أن حل مشكلة توفير الكهرباء أهم ما يواجه الحكومة السورية، ويقترح أن تعيد الحكومة تسعير الكيلوواط بعد دراسة تكاليف الإنتاج والتوزيع بناء على التكلفة الفعلية، على أن تكون تكلفة الكيلوواط نحو 10 سنتات، والعمل على تثبيت السعر بالدولار لفترة مؤقتة إلى أن يستقر سعر صرف الليرة أمام الدولار.
ويوصي قومان الحكومة السورية بالاعتماد على الطاقة الشمسية في إنتاج الكهرباء كحل لتوفير الكهرباء وخفض التكلفة.
ويؤكد المغربل على أهمية اصلاح القطاع المصرفي، وتحسين كفاءة البنوك الحكومية والخاصة، وتقديم قروض ميسرة للصناعيين، إضافة إلى تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني.
أما قومان فيرى أن ثمة ضرورة لمراجعة الاتفاقيات التجارية مع دول الجوار وإعادة تقييمها لضمان عدالتها وعدم الإضرار بالصناعة الوطنية، وتصميم برنامج لدعم الصناعات المحلية لمدة ما بين 3 و5 سنوات عبر إعفاءات ضريبية أو منح حكومية حتى تتمكن من منافسة المنتجات المستوردة، بعد وضع قائمة بالقطاعات أو المنتجات الأكثر تأثرا.
ويشير المغربل إلى ضرورة تحديث المعدات والآلات وتوفير بيئة تشريعية مستقرة ورفع العقوبات المفروضة على البلاد، كما يمكن الاستفادة من التجارب الإقليمية الناجحة مثل تركيا.