القاهرة – أثار توقيع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس المصرية اتفاقا مع مجموعة موانئ أبو ظبي؛ لتطوير وتشغيل منطقة صناعية لوجيستية على ساحل البحر المتوسط بالقرب من قناة السويس، تساؤلات حول دوافع وجدوى “المشروع” الذي جاء بنظام حق الانتفاع لمدة 50 عاما قابلة للتجديد، مقابل حصول مصر على 15% من إيراداته.
وبموجب الاتفاق، من المقرر أن تحصل موانئ أبو ظبي التابعة لصندوق أبو ظبي السيادي على حق تطوير وإدارة منطقة (كيزاد بورسعيد) التي تمتد على مساحة 20 كيلومترا مربعا من إجمالي مساحة منطقة ميناء شرق بورسعيد البالغة 64 كيلومترا مربعا والواقع عند مدخل قناة السويس الشمالي.
ويتضمن المشروع 3 مراحل؛ الأولى تبدأ نهاية العام الجاري على مدى 3 سنوات، بإنشاء رصيف بحري على مساحة 2.8 كيلومتر مربع على أن تتضمن إنشاء رصيف بطول 1.5 كيلومتر مربع، قد يضم لاحقا محطة شحن متعددة الأغراض، باستثمارات تقدر بـ120 مليون دولار.
وفي حين تتولى مصر مسؤولية توفير البنية التحتية الخارجية، تقدر قيمة البنية التحتية الداخلية للمشروع ما بين مليار وملياري دولار.
دوافع مصرية
يقول رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، إن الاتفاقية تأتي في إطار إستراتيجية تنمية المناطق المحيطة بقناة السويس، مشددا على عدم وجود علاقة بينها وبين إدارة أو ملكية الممر الملاحي نفسه، الذي تظل مسؤوليته الكاملة على عاتق هيئة قناة السويس.
وخلال مؤتمر صحفي عقده الأربعاء، أوضح مدبولي أن الاتفاقية تشمل وتستهدف:
- تعظيم الاستفادة الاقتصادية من الموقع الجغرافي المميز من خلال جذب استثمارات أجنبية مباشرة.
- تطوير الأراضي غير المجهزة بالبنية الأساسية عبر نظام “المطور الصناعي” المتبع في عدد من مشروعات المنطقة الاقتصادية.
- الاتفاقية ليست استثناء؛ إذ سبق توقيع اتفاقات مماثلة مع 14 مطورا صناعيا في مناطق صناعية أخرى؛ بهدف إقامة مصانع وتشغيل العمالة المصرية.
- العقود تبرم بنظام “حق الانتفاع” فقط، وليس التمليك، وفقا لقانون المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
- الحكومة تعمل على تهيئة بيئة استثمارية جاذبة من دون المساس بالسيادة على الأصول الإستراتيجية.
- الاتفاقيات تدعم الاقتصاد الوطني، وتفعيل دور القطاع الخاص في التنمية.
بين كيزاد بورسعيد والسخنة
تنشط الإمارات عبر مجموعتي موانئ أبو ظبي وموانئ دبي في 6 موانئ من بين 16 ميناء تجاريا مدنيا تمتلكها مصر، كما سبق أن استحوذت على شركات للشحن الإقليمي، وتشغيل الموانئ، وأعمال الشحن والتفريغ، وأبرمت اتفاقيات امتياز طويلة الأجل، لتطوير وتشغيل محطات السفن السياحية في موانئ البحر الأحمر، في سفاجا والغردقة والعين السخنة وشرم الشيخ.
وثمة تشابه ملحوظ بين صيغة صفقة كيزاد بورسعيد، وصفقات إماراتية مصرية أخرى مماثلة، فعلى سبيل المثال تتشابه الصفقة مع اتفاقية وقعتها مصر وموانئ دبي؛ لتطوير ميناء العين السخنة على ساحل البحر الأحمر عند مدخل خليج السويس عام 2008، ومنحت الشركة الإماراتية حصة 90% وحق تشغيل الميناء حتى عام 2049 مقابل 670 مليون دولار آنذاك.
وفي 2015، عُدلت الاتفاقية مقابل تداول الحاوية الواحدة من 0.6 إلى 6 دولارات، ما رفع الإيرادات السنوية المتوقعة لمصر من أقل من 300 مليون إلى مليار دولار، حسب تقارير.
ورغم التزامات موانئ دبي، بموجب الاتفاقية، بزيادة الطاقة الاستيعابية إلى 1.2 مليون حاوية بحلول 2009، لم يتجاوز التداول 900 ألف حاوية في 2023، حسب تقرير لقطاع النقل البحري بمصر.
وفي 2021، لجأت مصر لتحالف صيني لتطوير الميناء ورفع سعته إلى 3.5 مليون حاوية.
وتأخرت الشركة الإماراتية في تنفيذ مشروع تطوير منطقة صناعية وسكنية وميناء على مساحة 95 كيلومترا مربعا تم الاتفاق عليه عام 2017، ولم يبدأ تنفيذه فعليا إلا في أواخر 2022، ولا تزال المرحلة الأولى غير مكتملة حتى فبراير/شباط 2025 (تم تنفيذ 65%)، وسط انتقادات مراقبين لتأخر موانئ دبي في التزاماتها.
ويشار إلى أن الحكومة المصرية وقعت في 2023 اتفاقية امتياز مع موانئ أبو ظبي لتشغيل ميناء سفاجا على البحر الأحمر (جنوب شرق) لمدة 30 عاما، واستثمارات في ميناءي العريش وغرب بورسعيد على البحر المتوسط بـ30 مليون دولار.
من منظور قانوني
من منظور القانون الدولي، يقول أستاذ القانون الدولي وعضو الجمعيتين الأميركية والأوروبية للقانون الدولي محمد مهران، إن اتفاقية “كيزاد بورسعيد” تتوافق مع المعايير الدولية للاستثمار.
وأوضح لـ”الجزيرة نت” أن المدة الزمنية البالغة 50 عاما تعد معيارا دوليا متعارفا عليه في أغلب المشروعات الاستثمارية الكبرى، خاصة تلك التي تتطلب بنية تحتية ضخمة واستثمارات طويلة الأجل، مشددا على أن الاتفاقية لا تمس بأي حال السيادة المصرية، بل تمثل نموذجا للشراكة الإستراتيجية المثمرة بين البلدين.
وحول الضمانات القانونية، أشار مهران إلى أن الاتفاقية تتضمن آليات قانونية ورقابية متكاملة، تكفل لمصر حق الإشراف والتنظيم الكامل على النشاط داخل المنطقة.
وردا على تساؤل حول ما يثار من مخاوف ترتبط بمدى التزام الجانب الإماراتي بالاتفاقية، أوضح أستاذ القانون أن الاتفاقية الحالية تضمنت شروطا واضحة تضمن الالتزام بالجداول الزمنية المتفق عليها، مؤكدا أن نموذج المطور الصناعي المعتمد يوفر أطرا كافية لتحقيق الأهداف المرجوة.
وأضاف: “من منظور القانون الدولي للاستثمار، فإن هذه الاتفاقية تمثل نموذجا للتعاون الاقتصادي المتوازن الذي يحفظ المصالح المشتركة ويعزز التنمية المستدامة، وليست تنازلا عن السيادة أو الموارد بأي حال من الأحوال”.
مزايا غير مسبوقة
وحول مزايا المشروع لمصر، يقول خبير اقتصاديات النقل ودراسات الجدوى، أحمد الشامي إنه يعد واعدا ومهما للبلدين، موضحا أن المنطقة تتمتع بموقع إستراتيجي مطل على البحر المتوسط، يجعلها نافذة على أوروبا ومركزا محوريا في التجارة العالمية.
ويتوقع في تعليق للجزيرة نت أن تحصل مصر على مقابل سنوي نظير حق الانتفاع بالأرض، قد يبلغ دولارا واحدا للمتر المربع، مع احتفاظها بملكية الأرض، مشددا على أن نسبة مصر من الإيرادات 15% وإعفائها من تكلفة البنية التحتية، تعد مكاسب نادرا ما تحققت في صفقات مشابهة.
وأضاف أن الإمارات تخطط لمشروعات في النقل والطاقة والبيئة وإعادة التدوير، وسيُطبق جزء كبير منها في شرق بورسعيد، ما يميز المشروع بشموليته في الأنشطة اللوجيستية والصناعية والبيئية.

ورغم أن مدة الامتياز طويلة مقارنة بالعقود التقليدية التي لا تتجاوز 30 عاما، شدد على أنها مبررة؛ نظرا لتحمل الإمارات استثمارات ضخمة، ما يشير إلى تفاهمات بصيغة “رابح-رابح”.
وبخصوص تأثير المشروع على تنافسية الموانئ المصرية، أشار إلى أن ميناء جبل علي هو الأعلى تشغيلا عالميا، وقد يبلغ أقصى طاقته بحلول 2027، علاوة على ذلك يرى الشامي أن التوسع الإماراتي لا يعد تنافسيا بل تكامليا، خصوصا مع شراكات قائمة في مصر، مثل ميناء السخنة، وسعيها لتوزيع عملياتها على موانئ إستراتيجية تخدم مصالحها وعملاءها.
وأضاف أن المشروع يعكس توجه مصر للتعاون مع شركاء يمتلكون ملاءة مالية وخبرة استثمارية، لتعظيم الاستفادة من مواردها وموقعها الجغرافي.
محاذير إستراتيجية
في المقابل، يعتقد الباحث في الاقتصاد السياسي والخبير في دراسات الجدوى والتنمية، مصطفى يوسف أن صفقة الاستحواذ الإماراتية لا يمكن فصلها عن نمط ممتد من الاستحواذ الإماراتي على قطاعات إستراتيجية في مصر.
وانتقد يوسف في تعليق للجزيرة نت “سياسات التنازل عن حقوق السيادة الاقتصادية” عبر اتفاقات امتياز طويلة الأجل، قائلا: إذا كانت ثمة حاجة لتطوير منطقة إستراتيجية كهذه، فالأولى أن يتم ذلك عبر شركات ومستثمرين مصريين”.
وشدد على أن ثمة تنافسا بين قناة السويس وموانئ مصر والمشروعات الإماراتية البديلة والمتنافسة، مثل ميناء جبل علي وميناء خليفة، مشيرا إلى أن الإمارات ضالعة في مشاريع كبرى مثل “ممر الهند أوروبا”، بما يتعارض مع مصالح قناة السويس ويستهدف تقويض دورها بالتجارة الدولية، إلى جانب تنسيق متزايد مع إسرائيل بما قد يهدد طموحات مصر التنموية في المنطقة، حسب قوله.
رسالة لصندوق النقد
ومتفقا قليلا مع الطرح السابق، يرى الخبير في الاقتصاد السياسي عبد النبي عبد المطلب أن الصفقة الإماراتية جاءت في سياق التزام مصر بتعهداتها لصندوق النقد، خاصة في برنامج الخصخصة بقطاع الموانئ، مع تجنب المساس بالشركات السيادية لحساسيتها.
وفي تعليق للجزيرة نت، يعتقد أن الصفقة “قد تحرم” مصر من استغلال مواردها بكفاءة، مشيرا إلى أن الحكومة المصرية تمتلك كوادر وخبرات تؤهلها لتحقيق المكاسب نفسها.
كما حذّر من أن طول مدة الانتفاع قد يؤدي إلى إهمال باقي الموانئ أو فرض قيود على تطويرها، بما يشجع شركات أجنبية أخرى على المطالبة بشروط مماثلة.
ومع ذلك، أشار إلى أن مصر قد تراهن على جذب رأس المال والتكنولوجيا الإماراتية لإقامة منطقة لوجيستية موسعة، شرط توفر آليات تنفيذ فعالة وشروط تعاقدية مناسبة.