يقدم فيلم “ذا سينرز” (The Sinners) تجربة سينمائية مختلفة ومميزة بأشكال عدة، فهو فيلم ذو إنتاج كبير، لكنه لا ينتظر موسم الصيف، بل يصدر في الربيع، لينافس في شباك التذاكر العالمي بقوة رغم تصنيفه للبالغين فقط، الذي يقلل من نسب المشاهدات عادة. ويتجه فيه المخرج ريان كوغلر إلى الرعب لأول مرة، ليطوع النوع السينمائي ويستخدمه لتقديم صياغة جديدة لأفكاره السياسية المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة.
“ذا سينرز” من إخراج وتأليف ريان كوغلر، وبطولة مايكل بي جوردان وهايلي ستاينفيلد ومايلز كاتون وجاك أوكنيل. وخلال الأسبوع الأول من عرضه، حقق إيرادات تجاوزت 60 مليون دولار، بينما كانت ميزانيته 90 مليون دولار.
العنصرية أم مصاصو الدماء؟
تدور أحداث الفيلم في الولايات المتحدة خلال ثلاثينيات القرن العشرين، إذ تبدأ القصة مع الأخوين ستاك وسموك، اللذين يجسدهما مايكل بي جوردان. وللأخوين ماضٍ جنائي مضطرب، يدفعهما إلى مغادرة بلدتهما إثر حادثة عنيفة. خلال فترة الغياب، ينجحان في تكوين ثروة معقولة، ويقرران العودة لتحقيق حلمهما بإنشاء ملهى موسيقي يقدم موسيقى البلوز، مستعينين بابن عمهما الشاب سامي (مايلز كايتون)، المعروف بلقبه “بريتشر بوي”.
تتكثف أحداث الفيلم ضمن إطار زمني ضيق لا يتجاوز 24 ساعة، إذ يعود ستاك وسموك إلى بلدتهما، ويشتريان المبنى الذي سيحتضن الملهى، ويبدآن بتجميع فريقهما، كاشفين للمشاهدين بعض خفايا ماضيهما المضطرب.
في الليلة ذاتها، يُفتتح الملهى، لكن الحفل سرعان ما يتحول إلى كابوس عندما يتسلل مصاصو دماء إلى المكان، في اندماج بين الرعب والخيال الماورائي. يجد الأبطال أنفسهم مضطرين للدفاع عن حياتهم ضد تهديد لم يتوقعوه، بينما كان خوفهم الأكبر يتمثل في خطر جماعة “كوكلوكس كلان” العنصرية، التي لطالما اضطهدت الأميركيين من أصول أفريقية مثل ستاك وسموك وأصدقائهما.
خلال الأحداث، يكشف الفيلم عن أن العرق والعنصرية ضد الملونين في الولايات المتحدة هما أصل الحبكة، وليس محاربة مصاصي الدماء. فمصاص الدماء الأول يصل إلى عتبة بيت اثنين من جماعة الكوكلوكس كلان، ويطارده مجموعة من السكان الأصليين، الذين أطلق عليهم البيض لوقت طويل لقب “الهنود الحمر”. يقبل البيض إيواء مصاص الدماء لأنه أبيض البشرة مثلهم، ومن هنا يحولهم إلى مصاصي دماء، ويتسللون بعد ذلك للاستيلاء على أرواح جماعة السود الذين لا يرغبون إلا في افتتاح ملهى موسيقي، بينما يختتم الفيلم بهجوم حقيقي من جماعة الكوكلوكس كلان، الذين اعتزموا حرق الملهى مع ضوء الفجر الأول. هنا يوضح الفيلم التشابه الكبير بين هذه الجماعة من ناحية، ومصاصي الدماء من ناحية أخرى، ويترك للمتفرج الخيار لتحديد من هو الأكثر خطرًا بينهما.
بطلا “ذا سينرز” شخصيتان من السود يعيشان في بلدة ريفية تعاني من التمييز العنصري، وذلك في فترة الفصل العنصري التي وقعت بين انتهاء العبودية وحتى إلغاء قوانين التمييز العرقي في أميركا، القوانين التي حددت تفاصيل حياة أصحاب الأصول الأفريقية حتى ما بعد منتصف الستينيات من القرن العشرين، مما حافظ على مكانتهم المتدنية في المجتمع، والتي لم تختلف كثيرًا عن وضعهم أيام العبودية.
حفل قاتل على موسيقى البلوز
تُعَدّ الثلاثينيات من القرن العشرين حقبة ازدهار موسيقى البلوز في الولايات المتحدة، وهي الموسيقى التي تعود جذورها إلى الموسيقى الأفريقية التي جلبها أسلاف بطلي الفيلم عندما اختطفهم المستعمرون الأوروبيون الأصل ليصبحوا عبيدًا في أميركا. وكما هي الحال مع عديد من الفنون، استمرت هذه الموسيقى وتطورت على مر السنين حتى أصبحت علامة مسجلة للثقافة السوداء.
تعبّر إحدى الشخصيات في الفيلم عن أن البيض يحبون موسيقى البلوز، لكنهم لا يحبون من يؤديها، مما يمثل مفارقة جديرة بالاهتمام، توضح التناقض في سلوك أصحاب البشرة البيضاء ومحاولاتهم للاستيلاء ثقافيًا على تراث موسيقي لشعب آخر.
بأحد مشاهد الفيلم يعزف سامي ويغني الأغنية الرئيسية، ويعكس هذا المشهد القيمة الثقافية الكبرى للفيلم، وهي أن الموسيقى -بوصفها بنية ثقافية- قادرة على حمل تاريخ وتراث ملايين البشر، فهي ليست مجرد وسيلة للتسلية والاستمتاع، بل إن موسيقى البلوز تمثل وعاءً يحمل آلام وأحلام أصحاب الأصول الأفريقية الذين تم خطفهم واستعبادهم. هنا، لم يكن المخرج بحاجة لإظهار البطل وهو يحكي عن مآسي أجداده، بل اكتفى بجعل الشخصية تعزف وتغني.
كوغلر مخرج لديه أفكار واضحة تتعلق بهويته كونه رجلا أسود، ويعبر عن المظالم التي تعرض لها عرقه على مدار السنين في الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته، يحتفي بتراث هذا العرق الفني. لا يقدم كوغلر أفلامًا ذات رسائل مباشرة، لكن تلك الأفكار تتجلى بوضوح في أفلامه على الرغم من تنوعها بين الأنواع السينمائية.
على سبيل المثال، فيلم “فروتفيل ستايشن” (Fruitvale Station) الدرامي يقدم حادثة حقيقية تم خلالها قتل شاب أسود لمجرد كونه أسود، وهي حادثة وقعت عام 2009، تشبه حادثة جورج فلويد الشهيرة عام 2020.
بعد ذلك، نلاحظ أن مسألة العرق تظهر بشكل مختلف في أفلامه وفي أنواع أخرى، مثل فيلم “كريد” (Creed) الرياضي، الذي يُعد من أفضل الأفلام المنبثقة في السينما الأميركية، حيث ينقل سلسلة “روكي” (Rocky) إلى العصر الحديث وإلى عرق مختلف. بالإضافة إلى ذلك، لديه فيلما “بلاك بانثر” (Black Panther)، وهي ليست مجرد أفلام أبطال خارقين، بل تحتوي على إحياء للثقافة الأفريقية ضمن سلسلة أميركية تجارية تعظم بشكل واضح من البطل الأميركي الأبيض الذي يُصوَّر على أنه خارق.
فيلم “ذا سينرز” يُمثل خطوة جديدة لكوغلر، هنا لدينا نوع مختلف، وهو الرعب، لكن الرعب ليس أكثر من إطار للفيلم، إطار يحمل أفكار المخرج نفسها المناهضة للعنصرية، التي تحتفي بثقافة عرقه وشعبه، مستخدمًا واحدة من أهم العلامات التي تحدد هذه الثقافة، وهي موسيقى البلوز.