أتت جولة الرئيس التركي على عدة دول خليجية في مستهل ولايته الرئاسية الجديدة لتؤكد مسار التهدئة مع القوى الإقليمية، وتفتح باب العلاقات على مرحلة جديدة يشكل التعاون الاقتصادي والتجاري عنوانها الأبرز ورافعتها الرئيسة.
عقد من التوتر
رغم حرص حكومات العدالة والتنمية على علاقات جيدة مع دول الخليج العربية وما شهدته السنوات الأولى من حكم الحزب بقيادة رجب طيب أردوغان من تطور ملموس في العلاقات بين الجانبين، فإن العقد الفائت شهد توترًا كبيرًا بين تركيا من جهة وبعض الدول الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى.
في 2016 انتهجت أنقرة سياسة “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم”، لكنها لم تلق تجاوبا، إلا أن العامين الأخيرين شهدا تغيرًا ملحوظًا وسريعًا في العلاقات
لم يكن الأمر نتيجة تضارب المصالح أو تعارضها بالضرورة، إذ كانت هناك دائما مصالح اقتصادية وأمنية تدفع باتجاه التعاون. كانت الاصطفافات الإقليمية -تحديدًا بعد الثورات العربية في 2011- السبب الرئيسي خلف توتر العلاقات بين أنقرة من جهة والرياض وأبو ظبي من جهة أخرى، والذي وصل ذروته بعد الانقلاب بمصر في 2013، ليدخل الجانبان في سلسلة من المواجهات المباشرة وغير المباشرة.
كانت تركيا هدفا دائما لحملات إعلامية تحريضية من وسائل إعلام تدور في فلك محور السعودية/ الإمارات/ مصر، بالإضافة إلى مواقف سياسية من هذه الدول أو من الجامعة العربية بدعم منها تندد بالدور التركي في أكثر من ملف من سوريا للعراق ومن ليبيا لشرق المتوسط. وفي شرق المتوسط تحديدا تشكل منتدى غاز شرق المتوسط مستثنيًا بشكل واضح حقوق تركيا التي تملك الساحل الأطول عليه.
في المقابل، وجهت تركيا بشكل غير رسمي أصابع الاتهام لهذه الدول -خصوصا الإمارات- بالوقوف خلف عدة أحداث في تركيا وربما دعمها، مثل أحداث منتزه “غازي” التي تحولت لأحداث شغب في 2013، والمحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، بل صدرت أحيانًا تلميحات من مسؤولين حكوميين أو حزبيين بهذا الاتجاه.
وضاعفت محطات -مثل أزمة حصار قطر في 2017، وقضية مقتل جمال خاشقجي من التوتر بين الجانبين، لا سيما مع التطور البارز في العلاقات التركية-القطرية التي وصلت حدود التحالف الإستراتيجي بين الطرفين.
مسار المصالحات
في 2016 انتهجت أنقرة سياسة “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم”، لكنها لم تلق تجاوبًا في حينه من العواصم المذكورة، إلا أن العامين الأخيرين شهدا تغيرًا ملحوظًا وسريعًا في العلاقات.
دفعت عدة عوامل لمسارات متزامنة من التهدئة والحوار بين عدد من القوى الإقليمية، تمثلت في سلسلة من المصالحات بين تركيا والمحور المواجه لها في المنطقة (السعودية – الإمارات – مصر) والمصالحة الخليجية والحوار بين السعودية وإيران والمصالحة المصرية القطرية… إلخ.
في مقدمة هذه الأسباب تضرر اقتصادات المنطقة من جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية وغير ذلك، وتراجع حضور وأهمية الملفات الخلافية وعوامل الاستقطاب المرتبطة بالثورات والثورات المضادة بالنسبة لهذه الدول، وتغير الإدارة الأميركية ورغبتها في تعزيز التعاون بين حلفائها في المنطقة، فضلا عن عدم قدرة أي من الطرفين على إلغاء الطرف الآخر أو هزيمته في نزاعات وصراعات المنطقة، إضافة إلى تثبيت تركيا وجودها وأدوارها في كل من ليبيا وسوريا وجنوب القوقاز وغيرها.
بشكل مفاجئ، كانت الإمارات أسرع الدول تقاربا مع تركيا من خلال زيارة ولي عهد أبو ظبي -في حينه- الأمير محمد بن زايد لأنقرة، ثم زيارة أردوغان لأبو ظبي، ثم تعمقت العلاقات بين البلدين بشكل ملموس.
رغم تباطؤ المسار مع كل من السعودية ومصر مقارنة بالإمارات، فإن العلاقات معهما دخلت كذلك في مسار من التهدئة والحوار والتعاون، ووصلت ذروتها بمصافحة أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في افتتاح كأس العالم في الدوحة، وزيارة أردوغان للرياض وزيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لأنقرة.
مرحلة جديدة
جاءت جولة أردوغان الخليجية، التي شملت السعودية وقطر والإمارات، في بدايات ولايته الرئاسية الجديدة لتؤكد أهمية العلاقات مع دول الخليج العربية بالنسبة لتركيا في الفترة المقبلة. ويرتبط ذلك من جهة بمسار السياسة الخارجية التركية في الفترة القادمة، لا سيما في ما يتعلق بقضايا المنطقة والعلاقة مع القوى الإقليمية، وفي مقدمتها الدول العربية والخليجية، ومن جهة أخرى بأولوية الملف الاقتصادي في مرحلة ما بعد الانتخابات والاهتمام بالاستثمارات الخليجية على وجه التحديد في هذا الإطار.
فقد استبق أردوغان هذه الجولة بإيفاد نائبه جودت يلماظ ووزير المالية محمد شيمشك للخليج لإعداد الأرضية المناسبة لتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية في المقام الأول مع دوله.
الرغبة التركية في تطوير العلاقات، لا سيما التجارية والاقتصادية والاستثمارية، مع دول الخليج العربية ليست من طرف واحد؛ بل قابلتها الأخيرة برغبة مماثلة. ويتبدى ذلك بوضوح في حفاوة الاستقبال للرئيس التركي والوفد المرافق له في الدول الثلاث، وتؤكده الاتفاقات الموقعة مع هذه الدول؛ عددًا ومجالاتٍ ومضمونًا.
وإذا كان من المتوقع والبديهي أن تعمّق أنقرة علاقاتها مع الدوحة وتوقيع اتفاقات في مجالات مختلفة، نظرًا للعلاقات المتميزة بين البلدين في العقد الأخير على وجه التحديد ورؤية قيادة البلدين باتجاه ضرورة رفع مستواها بشكل مستمر؛ فإن الاتفاقات الموقعة مع كل من الرياض وأبو ظبي لفتت الأنظار.
وقعت تركيا مع السعودية عدة اتفاقات في مجالات الاستثمار المباشر والصناعات الدفاعية والطاقة والدفاع والاتصالات، وعُقد على هامش الزيارة منتدى الأعمال التركي-السعودي، وكان العنوان الأبرز في الزيارة توقيع عقدين مع شركة الصناعات الدفاعية التركية (بايكار) لشراء طائرات مسيّرة (من دون طيار)، وُصفت بأنها الصفقة الدفاعية الأبرز في تركيا.
هذه الأخيرة ليست اتفاقية اعتيادية أو هامشية، بل لعلها المؤشر الأهم على تخطي البلدين مرحلة الفتور والتوتر السابقة. ويعضد هذا المعنى إصدار البلدين بيانًا مشتركًا تخطى راهنية الزيارة الأخيرة وقدم رؤية مشتركة للبلدين تجاه جملة من قضايا المنطقة والعالم الإسلامي بشكل عام، وهذا كذلك بدوره ليس تفصيلا هامشيًا بالنظر لمستوى العلاقات بينهما في العقد الماضي.
كما وقعت أنقرة مع أبو ظبي عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم قدّرت قيمتها بـ50.7 مليار دولار، إضافة إلى إعلان اتفاق مشترك بين الجانبين لإنشاء لجنة إستراتيجية عليا بين البلدين. وبشكل مشابه، فإن الاتفاقات الموقعة بين البلدين تؤكد فتح صفحة جديدة مختلفة تمامًا من العلاقات، ولعل اتفاق تبادل المطلوبين على وجه التحديد يؤكد هذا المعنى، ويشير إلى أن الطرفين مصرّان على استمرار مسار تحسين العلاقات وتجاوز فترة المواجهات السابقة بينهما.
الخلاصة، أكدت زيارة الرئيس التركي الأخيرة لكل من السعودية والإمارات وقطر أن توجهات السياسة الخارجية المستجدة لأنقرة ليست مرتبطة بشكلٍ حصري بالانتخابات السابقة، بل إنها جزء من رؤية صادرة عن قناعة لدى صانع القرار بضرورة انتهاج سياسة خارجية مختلفة عن تلك المطبقة في العقد الفائت. كما تثبت الزيارة مجددًا مدى أولوية الاقتصاد في هذه الرؤية، لا سيما من جهة جذب الاستثمارات الخارجية التي تشكل دول الخليج العربية مصدرا أساسيا لها.
في العموم، إن مخرجات هذه الزيارة -جنبًا إلى جنب مع عدد من التطورات الإقليمية والدولية- تحيل إلى إرهاصات إنشاء نظام إقليمي جديد في المنطقة مختلف عن فلسفة الاصطفافات التي حكمت المنطقة خلال العقد الماضي، ويبدو أن الاقتصاد -على وجه التحديد- هو رافعة هذا المسار ودافعه الأهم.