يتساءل بعض القراء في العالم العربي: هل كان لورنس العرب جاسوسا؟! يحسبون أن في إلصاق تهمة التجسس به ما يضع حدا للكلام؛ والواقع أن تجسُس لورنس على العرب هو أهون الأمور، أهون بكثير من صورته التي استقرت في المخيال الغربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الصورة التي نصبته ممثلا للقومية العربية، واختزلت طموحات شعوب المنطقة بأكملها في ما ينطق به.
ليس من معايب كتاب “أعمدة الحكمة السبعة” عيب أقبح من أنه كتاب يسكت عن معطيات تاريخية ويبرر أخرى، وذلك من حيث كونه ينظر إلى هذه المعطيات من زاوية نظر البطولة الأدبية
يقول لورنس في إحدى رسائله إنه قد “وجد نفسه في وضعية يستعصي الخروج منها بشرف”. لقد ساهمت “أعمدة الحكمة السبعة” في تضخيم الدور الذي قام به حقيقة وجعلت منه ذلك البطل الذي جاء من فراغ ليحدد مسار الثورة العربية بفضل عبقريته العسكرية والسياسية والإستراتيجية، والذي حمل لواء الحرية العربية مشروعا فرديا شخصيا، بعيدا عن تأثير السياسة البريطانية في المنطقة. يقول الكولونيل ماينرتسهاغن (ضابط أركان الجنرال أَلِنْبي) في مذكراته أن لورنس قد باح له بأن نصيب الأحداث المروية في “أعمدة الحكمة السبعة” من الحقيقة قليل جدا، وأنه قد سقط في أسر كذبه حيث كان المعجبون به وأصدقاؤه يريدونه أن يقيم.
يقول إدوارد سعيد -في معرض حديثه عن تجربة لورنس- “في هذه الحالة، الأسلوب ليس هو القدرة على الإحالة الرمزية على أشياء عامة ذات حجم كبير من قبيل آسيا والشرق أو العرب فقط، بل هو كذلك شكل من أشكال الاستبدال والدمج الذي يتحول بموجبهما الصوت الواحد إلى تاريخ بأكمله ويصبح، بالنسبة للإنسان الغربي الأبيض، سواء أكان قارئا أو كاتبا، النوع الوحيد من الشرق الذي يمكن معرفته”.
ليس من معايب كتاب “أعمدة الحكمة السبعة” عيب أقبح من أنه كتاب يسكت عن معطيات تاريخية ويبرر أخرى، وذلك من حيث كونه ينظر إلى هذه المعطيات من زاوية نظر البطولة الأدبية. بمحاولة لورنس تقمص الدور البطولي، يتصدر المشهد فيصبح أشبه بتلك الشجرة التي تخفي غابة من الحقائق التاريخية.
يحاول لورنس أن يوهم القارئ بأن “تحرير العرب” هو وليد شغف شخصي بحضارتهم وثقافتهم، وأن الشيء الذي أذكى روح ثورتهم ضد الأتراك هو تمرد العصابة التي كان يرأسها ضد قوانين الخارجية البريطانية الراسخة، خصوصا بعد اكتشافه فيصل وإعجابه الشخصي به. وحتى يكون أكثر إقناعا، يسعى جاهدا لصياغة تبرير أخلاقي لهذه الثورة، ويقول إن العرب لا يرون مانعا في محاربة الأتراك، حيث يقولون: “إذا كان المسيحيون يتقاتلون فيما بينهم، فلماذا لا يفعل المسلمون الشيء نفسه؟”.
بهذا الكلام يُخفي لورنس حقيقة ناصعة مفادها أن “تقسيم الإسلام” أصبح مطلبا أساسيا من مطالب السياسة الخارجية البريطانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. معلوم أن بريطانيا ظلت على امتداد القرن التاسع عشر حريصة على تماسك الإمبراطورية العثمانية، ذلك أنها كانت ترى في هذا التماسك ما يقف سدا منيعا في وجه الأطماع الروسية والفرنسية. غير أن تحالف الأتراك مع الألمان خلال الحرب أصبح يهدد بنسف مقومات الوجود البريطاني في الشرق ويقطع أوصاله، بفصل الهند عن مصر. ولم يكن هذا الأمر يخفى على لورنس نفسه، إذ يقول في إحدى رسائله: “حين اندلعت الحرب، صرنا أمام ضرورة ملحة لتقسيم الإسلام، فتصالحنا مع فكرة البحث عن حلفاء عوض رعايا”.
لم يكن يخفى على لورنس طبيعة الجدل القائم بين ماكماهون وألنبي وغيرهم من أقطاب السياسة البريطانية العسكرية وانقسامهم بين مناصر لفكرة التحالف مع الملك عبد العزير آل سعود، ومناصر لفكرة التحالف مع الشريف حسين الهاشمي؛ منهم من يرى في تحالف الملك عبد العزيز مع “إخوان من أطاع الله” لتوحيد العربية السعودية مصدر قلق، ومؤشرا على حس المبادرة الذي يجعل منه قائدا ربما لا يؤمن جانبه، ومنهم من يرى في الشريف حسين الشخصية الأجدر بالثقة. سواء أكان لورنس على علم بهذا الجدل أم لم يكن يعلم به، فهو بسعيه لتقمص البطولة يخفي حقيقة اهتمام السياسة البريطانية الكبير بتقسيم الإسلام وإيجاد حليف إستراتيجي بين العرب الذين صاروا يُمنَحون صفة “الأخيار الطيبين” في مقابل الأتراك الذين تحولوا إلى “أشرار متغطرسين”.
تحولت “أعمدة الحكمة السبعة” إلى سردية تطمس بجمال أسلوبها الأدبي الأخاذ حقائق التاريخ الكبرى. ويأتي على رأس هذه الحقائق كلها أن الصراع الذي يحاول لورنس وصفه ليس صراعا بين عصابة من المتمردين وسلطة مركزية عثمانية، بقدر ما هو صراع حول المنطقة العربية كان من بين الأسباب الرئيسة لاندلاع الحرب العالمية الأولى.
لقد ظلت بريطانيا تنظر بقلق وتوجس شديدين إلى ما آلت إليه الأمور من تقارب بين الدولة العثمانية وألمانيا، خصوصا بعد أن منح السلطان عبد الحميد الألمان امتيازات كبيرة في إطار مشروع السكة الحديد، “خطة سكة حديد برلين بغداد”، هذا المشروع الذي كان من المفترض أن يعطي ألمانيا امتدادا قاريا ويفك العزلة عنها ويصلها بالمنطقة العربية.
كان من المفترض أن تربط سكة حديد (برلين- بغداد) ألمانيا ببغداد، مرورا بالإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية ودول البلقان وتركيا. فمعلوم أن ألمانيا لم تكن قوة بحرية، وأن هذا المشروع كان سيكسبها قوة تجعلها تنافس بريطانيا في الشرق الأوسط وتهدد مصالحها. ويذهب بعض المؤرخين إلى حد القول بأن حرب البلقان لم تقم إلا لقطع الطريق أمام إنجاز السكة الحديد. وبهذا يمكن أن نقول كذلك إن الحرب العالمية الأولى لم تبدأ سنة 1914، بل كانت مسبوقة بمناوشات داخل القارة الأوروبية.
نستطيع أن نسترسل في الحديث عن أهداف الإدارة الاستعمارية البريطانية في المشرق العربي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكن لورنس يأبى في “أعمدة الحكمة السبعة” أن يربط بين هذه الأهداف وبين أهدافه الإستراتيجية والعسكرية خلال الحرب. وبهذا يسهم في تثبيت دعائم سردية تخفي واقع السياسة الإمبريالية في المنطقة، وترسخ، بفضل أسلوبه الأدبي الشيق، صورة الإنسان الأوروبي الخير الذي، كما يقول تيري هينش في كتابه “الشرق المتخيل” إنه “يأخذ على عاتقه مهمة عجن أو خلط مادة الشرق بعبقرية الغرب بغرض إنجاب أبناء جديرين بالانتساب إلى هذه الجهة من العالم”.
إن دراسة أرشيف الحرب العالمية الأولى وما شهدته من مفاوضات علنية وسرية تجلي لنا أن الثورة العربية أعقد بكثير من أن يقوى على نسج خيوطها شخص واحد، مهما كان بطلا. هذا على خلاف ما نستشف من قراءة “أعمدة الحكمة السبعة”، حيث يخفق لورنس في أن يجعل لبطولته غاية يقف عندها، ومن ثم يربط مصير شعوب المنطقة العربية بأكملها بمزاجه الشخصي، حتى إن قصة كفاحهم تنتهي مع خيبة أمله وتراجع حماسته وخفوت همته.
توحي قراءة “أعمدة الحكمة السبعة” بأنه مع تخلي لورنس عن القضية العربية يسقط كل شيء، ذلك لأن الثورة العربية ما كانت لتكون لولا عبقريته هو، وأما البدو فمصيرهم، دون دعمه البطولي، هو النكوص إلى وضع التمزق الذي كانوا عليه من قبل. يكتب في إحدى رسائله متحدثا عن الحركات التحررية العربية ما يلي: “من وجهة نظر الحرب، فإن أكبر عائق يواجه كل حركة عربية هو أفضل فضائل زمن السلم، ألا وهو غياب التضامن والتكافل بين مختلف الحركات العربية”.
بتركيزه على العوامل الداخلية المؤثرة في تمزق الوشائج بين العرب، يقوم لورنس بطمس العوامل الخارجية المساهمة في هذا التمزق، مثل تنافس الإمبرياليات من أجل الاستحواذ على المنطقة العربية، نظرا لأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية. يدل هذا على أن تجربة الصحراء عند لورنس، هذه التجربة التي تمت صياغتها أحسن صياغة أدبية وفنية، تأتي لتصب بشكل واضح في خلق بيئة سياسية مواتية للدعوة لإخضاع الشرق العربي لسلطة الغرب.
هل كان لورنس جاسوسا؟ هل كان جنديا عاديا؟ لقد كان هذا وذاك، فضلا عن أنه كان أديبا كبيرا، أفضت به طلاقة لسانه إلى تجاوز الغاية في تقمص بطولة شعرية أدخلته في حكم من لا يبالي بسؤال المطابقة بين القول والفعل. لقد استطاع بفضل عبقريته الأدبية أن يركب الواقع ليُوسِّع ساحة الخيال، وأن يركب الخيال ليُوسّع ساحة الواقع. إن قارئ “أعمدة الحكمة السبعة” يجد نفسه أمام عمل أشبه بالوثيقة التاريخية، وإن كان ليس منها، وأشبه بالخيال، وإن كان ليس منه.