تصاعدُ أعمال العنف العرقي والديني في الهند، ضد القوميات والعرقيات غير الهندوسية، يُنذر بخطر داهم، ليس على هذه البلاد فحسب، وإنما على المنطقة كلها، نظرا لامتدادات هذه العرقيات في الدول المجاورة التي لدى بعضها على الأقل تاريخاً عدائياً وتنافسياً مع نيودلهي.
الأكثر قلقاً بالنسبة للخبراء الهنود أن أعمال العنف لم تعد تستهدف المسلمين كما جرت العادة خلال العقود السبعة الماضية من ظهور الدولة الهندية الحديثة، وإنما امتدت لتشمل عرقيات السيخ وأخيراً المسيحيين، وهو ما يعزز الاتجاه العنصري ليس وسط المتطرفين الهندوس فحسب، وإنما وسط الحزب الحاكم بنظر الكثير من المراقبين والخبراء، بعد أن ثبت تورط أجهزة الدولة في أعمال العنف الأخيرة، والتي رافقها عمليات تحريض غير مسبوقة من قيادة حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف بزعامة رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي.
وفتحت حادثة مانيبور شمال شرق الهند المتاخمة لميانمار (بورما سابقا) صندوق باندورا حقيقيا، لما يعتمل في أحشاء الدولة الهندية، التي لم تعد أكبر دولة علمانية ديمقراطية في العالم، بقدر ما تحوّلت خلال العقدين الماضيين من استئثار حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف بالسلطة، إلى دولة أقرب للعنصرية والتطرف، وذلك على الرغم من الجهود التي يبذلها ما تبقى من حزب المؤتمر الهندي الذي حكم البلاد لفترة طويلة إبان حكم آل غاندي لها، ولكن على ما يبدو أن التيار الهندي المتطرف أقوى سطوة وشعبية اليوم من كل الأحزاب الأخرى، في ظل موجة العنصرية التي تجتاح العالم كله.
حادث مانيبور لم يكشف عن عدم مبالاة الحكومة والشرطة تجاه التعاطي معه، بقدر ما كشف عن حالة تواطؤ حقيقية مع المليشيات المهاجمة
الحادثة التي بدأت في الرابع من مايو/أيار الماضي، فضحهم مقطع الفيديو الذي تسرّب يوم 19/6 لعصابات هندوسية تجرّ سيدتين من عرقية الكوكي المسيحية، بعد أن جرّدتهما من ثيابهما، وسط ضربهما وإهانتهما، ليتناوب كما قيل على اغتصابهما أفراد العصابة المهاجمة.
ولولا هذا التسريب الذي أتى بعد شهر ونصف الشهر تقريباً، ما كان العالم كله عرف ما جرى للفتاتين، إذ إن أجهزة الدولة التزمت الصمت الكامل إزاء الجريمة، ليخرج علينا رئيس الوزراء بعد شهرين على الحادثة ليصف الحادث بالمخجل للهند ويتوعد بالتحقيق، ولكن لم تعد الأقليات والعرقيات والأديان غير الهندوسية يثقون بمثل هذه التعهدات، وهم الذين لديهم سجل حافل بنكوث الدولة الهندية بتعهداتها، ولاسيما شخصية مودي نفسه.
وزاد الطين بلّة حين اتهمت إحدى السيدتين قوات الشرطة، التي كانت موجودة في المكان، بتسليمها إلى الغوغاء من العصابات المهاجمة، ولما حاول والد وشقيق السيدة مساعدتها وإنقاذها تم قتلهما بدم بارد من قبل المهاجمين وبمعاينة قوات الشرطة المحلية.
رئيس الوزراء لا يزال يستذكر أهل الهند حكمه لمنطقة كوجرات كرئيس لحكومتها عام 2002 يوم قتل وأحرق أكثر من 5 آلاف مسلم، بتواطؤ الحكومة نفسها، وأعلن يومها عن اغتصاب 500 مسلمة في الإقليم، وعلى الرغم من رفعهن قضايا اغتصاب للمحاكم، لكن محكمة الإقليم لم تقبل سوى 3 قضايا، ولم يتم التحقيق فيها، باستثناء واحدة، وقد أدت تلك الفترة السوداء من حكم مودي والهند إلى فرض الولايات المتحدة حظراً على دخوله أراضيها ولم يرفع إلاّ بعد أن انتخب رئيساً للوزراء عام 2014، حيث لا يزال في السلطة منذ تاريخه.
وبالعودة إلى حادثة مانيبور التي جرت فعليا بين أقلية الكوكي وأغلبية ميتي الهندوسية المتطرفة، والتي يرجعها البعض ظاهرياً للخلاف على المناصب والأراضي، فإن الحكومة والبوليس -كما روى شهود عيان لوكالات الأنباء وصحف عالمية معروفة مثل نيويورك تايمز وتايمز وفورين بوليسي- متواطئون ضد الأقلية المسيحية، ويضيف شهود العيان بأن قوات الأمن أعلنت عن اختفاء أكثر من 5 آلاف قطعة سلاح من مخازنها، لتقع في أيدي الأغلبية الهندوسية ميتي، ومعها أكثر من 60 ألف طلقة. وبالمقابل هناك من تحدث عن تدفق سلاح وذخيرة من أقارب أقلية الكوكي المقيمين في ميانمار، كما تحدثت تقارير أخرى عن تدفق سلاح من الصين، وهي التي لديها سجل عدائي تاريخي مع الهند، إن كان بحربهما معا عام 1962، أو باصطفاف الهند مع المحور الغربي ضد الصين والتصعيد في بحر جنوب الصين، وهو الأمر الذي يعد أهم ضاغط داخلي وخارجي على الصين اليوم.
وحادث مانيبور لم يكشف عن عدم مبالاة الحكومة والشرطة تجاه التعاطي معه، بقدر ما كشف عن حالة تواطؤ حقيقية مع المليشيات المهاجمة، فعلى الرغم من إرسال الدولة الهندية لعشرات الآلاف من القوات الفدرالية لتهدئة الأوضاع إلاّ أن التصعيد ظل سيد الموقف، وسط مقتل أكثر من 160 شخصاً في أعمال العنف هذه، بالإضافة إلى تهجير أكثر من 60 ألفا من السكان المحليين.
والمُقلق بالنسبة للخبراء والمتابعين للشأن الهندي أن قصة الاغتصاب لم تعد قصصاً فردية منعزلة، بقدر ما غدا اتجاهاً مسيطراً في الهند، فمع احتفال الأخيرة بعقدها السابع على التأسيس، أفرج مودي أخيراً عن 11 شخصاً متهمين باغتصاب السيدة المسلمة بلقيس بانو في أعمال العنف والاغتصاب التي تعرض لها المسلمون في إقليم حكومته كوجرات عام 2002، وهي الحالة اليتيمة التي تم فيها القبض والمحاكمة للمغتصبين، وعلى الرغم من أن المحكمة حكمت عليهما بالسجن المؤبد إلاّ أنه تم الإفراج عنهما أخيراً، وجاء تزامن الإفراج مع حادثة السيدتين ليزيد من المخاوف في أوساط الأقليات، بأن الخطر لا يزال ماثلاً بحقهم، وأن الحكومة ليست جادة في التعامل الإيجابي مع هذه الحوادث.
وقبل أيام تعرضت سيدة مسلمة تعمل معالِجة فيزيائية في منطقة أوجين للاعتداء من قبل شباب هندوس، أثناء توجهها لعملها، وحين سعى ابن عمها لإنقاذها من المهاجمين تم ضربه، ونشر مقطع فيديو الاعتداء على مواقع التواصل الاجتماعي في الهند، التي غدت بمثابة المحاكمة العلنية الوحيدة المتوفرة للأقليات لمثل هذه التصرفات الهندوسية المتطرفة المتكررة، مع غياب مؤسسات الدول، وتواطئها مع المليشيات أنفسها.
وقد نشرت العالمة ميغا كومار المُدرسة في جامعة أكسفورد -مؤخراً- كتابها القيم بعنوان “الطائفية والعنف الجنسي في الهند”، والتي أشارت فيه إلى وجود علاقة بين المتطرفين الهندوس، وعصابات الاغتصاب المنتشرة فيها. وتزيد ميغا بأن الأيديولوجية الهندوسية قدّمت المسلمين كأعداء للشعب الهندي، حيث تنقل عن أحد منظري الأيديولوجية الهندوسية فايناياك دامداور سافاركان بأن “الاغتصاب سلاح لتلقين المسلمين درساً”. وتبقى الأيديولوجية التي يبشر بها الحزب الحاكم ويطبقها عملياً والمستندة إلى ما ينعتها بـ “هندوتفا” أي جعل الهند هندوسية خالصة، هي الجذر الحقيقي لتنامي ظاهرة التطرف والعنف والاغتصاب والطائفية، وبمثابة نسق الحياة التي تستمد المليشيات المتطرفة والمتعصبة تطرفها وعنفها.
ويهدد تفشي ظاهرة انتشار السلاح، شمال شرق الهند المتاخمة لكل من ميانمار والصين، بفوضى كبيرة على مستوى المنطقة، لاسيما إن أخذنا بالاعتبار امتدادات العرقيات الهندية داخل تلك الدول، بالإضافة إلى مصلحة بعضها في توتير الأوضاع فيها، وقد اختصر ذلك كله الجنرال الهندي المتقاعد هيملاي سنغ حيث قال “حين يتفشى السلاح غير الشرعي، وسط منطقة وشعب، فإن الصراع المسلح يكون محتوماً.”