“الحق” أحد أكثر المفاهيم التي وقع الالتباس فيها بين التصورات الإسلامية الكلاسيكية والتصورات الحديثة؛ بسبب هيمنة النقاشات الحديثة المتصلة بأفكار الدولة والسيادة وسلطة القانون، بل والترجمة أيضا.
ويمكن رد ذلك الالتباس إلى أمرين رئيسين على الأقل: أولهما يتصل بالنزعة الفردية التي يعبر عنها الاختصاص (الحق هو ما أختص به)، وثانيهما النزعة القانونية الحديثة ذات البعد الدنيوي التي تعبر عن الاحتياز (الحق هو ما أحصل عليه هنا والآن).
في هذا المقال أريد أن أوضح أن الحق (بالمعنى القانوني: أي ما هو لي) والواجب (بالمعنى الأخلاقي الذي ينطوي على بعد قيمي) متداخلان في مفهوم الحق وفق التصورات الإسلامية الكلاسيكية، بل يمكن أن نلحظ ذلك أيضا بداية من الأصل اللغوي لكلمة حق، فضلا عن الاستعمال الفقهي لها.
فالحق هو الواجب الثابت الذي يعمل باتجاهين: الحق الواجب لي والحق الواجب علي. كما أنه يمتد ليستوعب الدنيا والآخرة معا، وهو ما يميز مفهوم الحق عن التصورات السائدة اليوم والتي انجر بعضهم وراءها فحجبه ذلك عن حسن استيعاب المفهوم في التراث الإسلامي. ولا بد من توضيح أن الحق هو أحد المفاهيم ومثالٌ على مفاهيم عديدة لعل من أبرزها أيضا مفهوم السياسة الذي ينطوي بالضرورة على مضمون قيمي أيضا في التراث الإسلامي، ولعلي أفرد له مقالا آخر في المستقبل.
دلالات “الحق”
إذا ما رجعنا إلى العلامة اللغوي ابن فارس (ت. 390هـ) فسنجد أن الحق -في اللغة- يرجع إلى معنى كلي هو “إحكام الشيء وصحته”، وهذا الأصل العام يَصدق على استعمالات مختلفة لمفردة الحق كالمال والملك، كما أن كل موجود يقال له حق بهذا المعنى؛ فلشدة استحكامه ثبت فصار حقّا.
ومع ذلك يمكن التمييز بين دلالتين لمفردة الحق، الأولى منهما “معرفية” (epistemological) تدور حول معنى الصحيح الذي هو خلاف الباطل، والثانية “وجودية” (ontological) تدور على معنى تحقق الشيء؛ ولهذا قلنا: إن كل ما وُجد وثبت يقال له حق. بل أكثر من ذلك، إذا تيقنا من وجود الشيء في المستقبل وصفناه بأنه حق. فصار الحق هو الواجب أو المتحقق الثابت الذي لا يتطرق إليه تردد أو تحير (وهذا معنى “الثابت من كل وجه”)، ومن ثم كان الحق خلاف الباطل الذي يُطلق على المزيف والمعدوم (بالمعنيين المعرفي والوجودي).
وثمة دلالة ثالثة للحق لا تنفصل -في رأيي- عن الدلالتين السابقتين، وهي دلالة “قيمية” (moral)، ومن ثم كان الحق أحد القيم الفلسفية الكبرى (إلى جانب الجمال والخير)، وقيل لكل ما ثبت ووجب: حق؛ فالحق يتضمن مفهوم الواجب بالمعنى الأخلاقي.
هذه الدلالات الثلاث للحق (أعني المعرفية والوجودية والقيمية) تكاد تجتمع في استعمالات الفقهاء والأصوليين للمفردة كما سأوضح فيما يأتي:
فالحق في لغة الأصوليين يدور مدلوله بين التكليف والفعل القويم الجاري على وفق مراد الشارع. فالتكليف يعبر عن إرادة الشارع من خلال الأمر والنهي، فالشارع هو منشئ الحقوق (خاصة وفق التصور الكلامي الأشعري). ومن ثم يقال لكل تكليف أو حكمٍ من الأحكام التكليفية: حق. أما الفعل القويم فهو الفعل الذي يقع على وفق مقصود الشارع ويتحقق وجوده في الواقع على صفة معيارية محددة حتى يقال فيه: إنه حق؛ لتحققه من كل وجه، ولمضمونه القيمي؛ إذ لا يقال للفعل الخاطئ أو المخالف للأمر والنهي حق، ومن هنا خلص الإمام العز بن عبد السلام (ت. 660هـ) إلى القول: الحقوق كلها إما فعل للحسنات أو ترك للسيئات.
والحق في لغة الفقهاء يُطلق على معان عديدة مادية ومعنوية، منها: الأجور التي تُعطى للموظفين العموميين من الخزينة العامة، والالتزامات الناجمة عن العقود بعد إبرامها والتي تحدد حقوق المتعاقدين، ومرافق العقار التي تسمى حق الارتفاق أو المنافع المشتركة، وغير ذلك من الحقوق.
وهذا الاختلاف في استعمال الحق بين الأصوليين والفقهاء لا يرجع إلى جهة المضمون؛ بل إلى طبيعة المنهج ووظيفة كل علم. فعلماء أصول الفقه ينشغلون بالأصول النظرية والمنهجية للفقه ومصادره، في حين أن الفقهاء ينشغلون بالمسائل العملية أو الأفعال، ومن ثم انشغل الفقيه بالدلالة على حقوق معينة ثابتة لمعينين؛ سواءٌ وقع فيها التنازع وخضعت للتقاضي أم بقيت مسائل ديانية متروكة لأمانات المكلفين وضمائرهم. ومن جهة المعنى، فإن العلاقة بين استعمال الأصوليين واستعمال الفقهاء للحق هي علاقة كلي بجزئي، فالحقوق التي انشغل بها الفقهاء هي تَعينات لمفهوم الحق الكلي عند الأصوليين الذي يدور بين حكم تكليفي أو فعل واجب بدرجات متفاوتة.
وقد اتفق الأصوليون والفقهاء على مفهوم نظري للحقوق يقوم على قسمة الحقوق -من حيث الجملة- إلى قسمين رئيسين: حقوق الله وحقوق العباد (أو “حقوق الآدميين” أو “حقوق المخلوقين” بعبارة العز بن عبد السلام لتشمل الحيوان أيضا).
وقد أضاف بعض الأصوليين إلى القسمة الثنائية السابقة قسما ثالثا سماه الحقوق المشتركة بين الله والعباد، وبعضهم جعل هذه المشتركة قسمين بعضها يغلب فيه حق الله وبعضها يغلّب فيه حق العبد فصارت القسمة رباعية. ولكننا إذا غلَّبنا في الحقوق المشتركة حق الله رجعت إلى نوع حقوق الله تعالى، وإذا غلَّبنا فيها حق العبد رجعت إلى نوع حقوق العباد، وبهذا رجعت إلى القسمة الثنائية.
للحق مفهوم مزدوج، يعني ما هو “واجب لي” وما هو “واجب عليّ”، ما يعني أن الحق والواجب متداخلان، ومن أمثلة ذلك “الحق العام” أو “حق الله تعالى”، إذ يشترك الجميع في وجوب صيانته وفي حق الانتفاع به على السواء.
ثم جاء بعض العلماء كالعز بن عبد السلام (ت. 660هـ) وشهاب الدين القرافي (ت. 684هـ) وأبي إسحاق الشاطبي (ت. 790هـ) وغيرهم فقالوا: إن كل حق للعبد لا يخلو من حق لله تعالى فيه. ومع هذا القول لا بد أن يرجع الحق إلى القسمة الثنائية أيضا؛ سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية. فالقسمة الثنائية مدارها على تعيين المستحق للحق وهو إما الله تعالى أو العبد. فإن كان الحق واجبا لله على العبد كان حقّا لله ولم يَجُز إسقاطه من أحد من خلقه، وإن استحقه العبد فهو حق للعبد ويجوز له إسقاطه والمسامحة فيه. بل إن تلك القسمة يترتب عليها آثار عملية؛ سواء كانت قضائية أم ديانية (كالتوبة في الحق والرجوع عن الإقرار به وتوارثه وجواز الاحتياط فيه من عدمه، وغير ذلك).
معنى ذلك أنه حتى على إثبات حق لله تعالى في كل حق للعباد، فإن ذلك لا يُلغي أصل القسمة الثنائية؛ لأنها قسمة صحيحة من الناحيتين النظرية والعملية (الديانية والقضائية) كما سبق، فضلا عن أنه كان لها فعالية في التعليل الفقهي بين المذاهب الفقهية المختلفة بدءا منذ القرن الثاني الهجري؛ حيث قدمت قسمة الحقوق تسويغات نظرية للأحكام استعملتها مختلف المذاهب الفقهية للدفاع عن اتساق أحكامها وعقلنتها في مواجهة خصومها من المذاهب الأخرى.
مسائل ثلاث
وأظن أن القدر السابق كافٍ لتوضيح الإشكال الذي قد يطرأ لدى البعض حول قسمة الحقوق؛ لأن الزيادة على ذلك ربما شوشت على الفكرة المركزية التي يسعى المقال لإثباتها، وسألخصها في 3 مسائل كالآتي:
المسألة الأولى:
أن الحق -في استعمال الفقهاء والأصوليين- ينطوي على معنى الواجب الأخلاقي. وبيان ذلك من 4 وجوه:
- الأول: أن قسمة الحقوق إلى حق لله وآخر للعبد مدارها على المنفعة. أما حق الله فيدور على معنى الخير العام (أو “النفع للعالَم” بتعبير بعض الفقهاء الكلاسيكيين)، فهو حق عام يشترك فيه الجميع؛ صيانةً ومُطالبة وانتفاعا. فإضافة الحق إلى الله تعالى عنت هذا المعنى، أي أنه لا يختص به أحد معين، ومن ثم لا يمكن أن يستحوذ عليه ذو سلطان، كما عنت أيضا أن خطر غياب هذا الحق عظيم، وأن نفعه عميم وفضله شائع بين الناس كافة؛ لأنه شرط للصلاح في المجتمع. فالله يتعالى عن أن ينتفع بشيء، وكل الخلق بالنسبة له سواء، سواء نُسب إليه أم لم يُنسب إليه شيء. بل حتى العبادات التي تُصنف على أنها من “الحقوق الخالصة” لله تعالى، إنما ترجع إلى مصالح الأفراد في ذواتهم من جهة، وإلى النفع العام المتعلق بصلاح المجتمع من جهة أخرى.
ومن ثم نقل الحافظ ابن حجر (ت. 852هـ) عن الإمام تقي الدين السبكي (ت. 756هـ) “أن في الصلاة حقًّا للعباد مع حق الله، وأن من تركها أخل بحق جميع المؤمنين: من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة؛ لوجوب قوله فيها: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”. وهذا وجه من وجوه النفع العام ولا يستوعبه كله؛ لأن الصلاح الذي يُفترض أن تثمره الصلاة من حيث أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، هو مما يعود نفعه على المجتمع فيدخل في نطاق الخير العام. هذا عن حق الله، أما حق العبد فهو ما كان نفعه خاصّا أو معيّنا، ويسمى حق الآدمي (بل وللحيوان حق أيضا كما سبق) وسأوضح لاحقا كيف يتداخل فيه المنفعة الخاصة (التي هي قريبة) مع المنفعة العامة (التي هي بعيدة). - الثاني: صحيح أننا عبرنا عن الحقوق -هنا- بالواجب الأخلاقي، ولكن لا بد من بيان أن الحقوق تختلف مراتبها؛ فبعضها مُلزِم وبعضها غير ملزم (بالمعنيين الفقهي والقانوني). فمن الحقوق ما هو واجب أو مستحب، وكثير من تصرفات العباد التي تصرفوا فيها بموجَب أصل الإباحة، إذا تعاقدوا عليها لزمتهم الحقوق المترتبة على تعاقداتهم. وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحق كما في النذور مثلا.
- الثالث: أن الحقوق جميعا دائرة على معنى أخلاقي كلي هو فعل الحسنات وترك السيئات، فهي إما فعل خير أو كفّ عن شر، ومن ثم دارت بين جلب مصلحة ودرء مفسدة.
- الرابع: أن حقوق العباد -وإن اختصت بهم، سواء على سبيل الخلوص (كالحقوق المالية للعبد مثلا) أم على سبيل التغليب (كحد القذف على رأيٍ)- تنطوي أيضا على مصلحة عامة، ومن هذا الباب ذهب من ذهب إلى أنه لا يكاد يخلو حق للعبد من حق لله فيه؛ لأن ثمة تداخلا بين النفع الخاص والنفع العام في المجتمع، وهذه مسألة تستحق أن تُبحث في العلاقة بين المجال الخاص والمجال العام في الدولة الحديثة؛ خصوصا أن حقوق العباد تشمل -في الفقه- الدماء والأموال والأعراض، في حين أن الدماء -مثلا- جعلتها القوانين الحديثة حقّا عامّا خالصا.
المسألة الثانية:
أن الحق ليس ما هو واجب لي فقط، بل يشمل الوجوب لي وعلي في الوقت نفسه؛ فالحق هنا مزدوج وهو ما اضطررت للتعبير عنه بتداخل الحق والواجب؛ لغلبة استعمال “الحق” لما هو لي؛ رغم أن الحق والواجب بمعنى واحد. فالحق العام أو حق الله تعالى يشترك الجميع في وجوب صيانته والانتفاع به على السواء، وهذا مما يتداخل فيه الحق والواجب معًا.
فالحق يوجِد للشخص حقوقا ثابتة، ويوجِد -في المقابل- عليه واجبا تجاه الآخرين، وهذه الواجبات عليه، منها ما يكون محلا للتقاضي عند التنازع، ومنها ما يُسند إلى الضمير الأخلاقي (أو أمانات المكلفين) لتكون محلا للجزاء في الآخرة. فحق الحياة -مثلا- موجود ثابت لكل شخص، ويجب -في الوقت نفسه- على الجميع احترامه، ومن ثم كان في القصاص -مثلا- حياة.
ثم إن استعمال الحق يوجب على صاحبه عدم الإضرار بالآخرين وعدم التعسف في استعمال حقه أيضا. وهذا يعني أن ما هو حق له واجب على غيره بإيجاب الله له، وأن صاحب الحق ليس مطلق التصرف في حقه؛ بدون رعاية مقصود الشارع الذي أنشأ هذا الحق.
ثم إن كثيرا من الحقوق ذو طبيعة تبادلية؛ لأنها حقوق ثبتت بالاجتماع الإنساني؛ فمفهوم الحق يشمل طيفا واسعا من الحقوق، ويظهر هذا من خلال تعدد الاعتبارات التي على أساسها صُنفت الحقوق في الفقه الإسلامي (وهو ما يتحدث عن الحقوق المعينة كما سبق). ويشمل هذا الطيف الحقوق المادية المالية وما له صلة بالمال، وغير المالية وما لا يتعلق بالمال، وذلك مثل حقوق القصاص والارتفاق والشُّفعة وغيرها، والحقوق المعنوية كحق المقذوف بالزنا مثلا. ويشمل الحق -من جهة ثانية- ما يقبل التقاضي (كالحقوق المالية) وما لا يقبل التقاضي (كحق البدن، وحق الطريق، والصدقة، وحق الوالدين وغيرها).
المسألة الثالثة:
أن نوعي الحقوق يؤولان -في نهاية المطاف- إلى أن يشملا الدنيوي والأخروي. أما حقوق الله تعالى فالأصل فيها أنها تتصل بالمصالح الأخروية. وأما حقوق العباد فالأصل فيها أنها تتصل بالمصالح الدنيوية. ولكن حقوق الله -من حيث تعلق أثرها بالنفع العام- تُحقق مصالح دنيوية، وأما حقوق العباد -من حيث إنها مأمور بها- فإن الامتثال فيها لخطاب الشارع يحقق مصالح أخروية، كما أن التعدي عليها يعرّض للمساءلة الأخروية؛ خصوصا إذا لم يقع العفو والمسامحة أو لم يحقق القضاء النَّصَفَة للمتخاصمين.
وتوضح المسائل الثلاث السابقة ومقدماتها النظرية، كيف أن مفهوم الحق -في استعمال الأصوليين والفقهاء- يضعنا في صلب النقاشات الأخلاقية الحديثة؛ فالحق -بمعنى التكاليف أو الأحكام الشرعية- يُحيلنا إلى التقويمات المعيارية للأفعال، والحق -بمعنى الأفعال- يحيلنا إلى الفعل القويم أو الفعل الصالح الذي يقع مطابقا لمقصود الشارع (أي الأمر والنهي المنشئ للحقوق).
فالحق -على هذا الفهم- يجمع بين السؤال عن ماذا يجب عليّ أن أفعل، والسؤال عن كيف أحيا؛ فهو لا يتناول -فقط- حقوق الأفراد أو المنافع الخاصة، بل يتناول -أيضا- الحقوق والمنافع العامة، ويجمع بين البعدين الدنيوي والأخروي لتحقيق ما تستقيم به الحياة في الدارين، ثم هو يستوعب -أيضا- الأحكام والتقويمات المعيارية للأفعال، ويحدد الفعل الصالح أو المعياري.
تقدم منظومة الحقوق -في الواقع- مفهوما أخلاقيّا نظريّا يزودنا بالتسويغات اللازمة للأحكام الأخلاقية، وهو بهذا يتجاوز قصور المفهوم القانوني للحق. ولهذا الفهم للحق ما بعده لو استحضرناه في تصوراتنا وتقويماتنا اليوم، والله تعالى أعلم.