صدر منذ أيام عن اتحاد الناشرين العرب دراسة عن حالة القراءة في الوطن العربي إعداد الدكتور خالد عزب، خبير النشر ومستشار الاتحاد، الهدف منها تتبع اتجاهات القراءة في الوطن العربي التي يمكن من خلالها تحديد ماذا يطلب القارئ العربي من الناشر؟
استوقفني فيها عدد من الدلالات التي تحمل أبعادا سياسية ترتبط بما كتبت عنه كثيرا على موقع الجزيرة نت من تلك العملية الجارية التي أطلقتُ عليها “إعادة تعريف السياسة”.
تستند هذه العملية إلى نموذج معرفي وقيمي مختلف يقوم على الفردية والعملية والانطلاق من أفكار جزئية لا أيديولوجيات شاملة، ويدور أساسا حول خطابات المعاش التي تتأسس على البحث عن إجابة على أسئلة الناس الصغرى المباشرة لا أسئلة الوجود الكبرى، ويرتبط بالشبكات أكثر من المؤسسات.
أهمية هذه الدراسة -رغم محدوديتها وعدم اكتمال معلوماتها- أنها تعطي لنا بعض المؤشرات على اتجاهات المواطنين العرب في الحاضر والمستقبل.
الحرية التي يتطلع إليها الأفراد في قلب هذه العملية هي استعادة للذات الحرة في إنتاج المحتوى والتفاعل معه واستهلاكه، في مقابل السيطرة والتحكم والاحتكار الذي يحيط به في الفضاء السياسي، كما في المجال الاقتصادي والاجتماعي والديني
أولا: تآكل المؤسسات لصالح الفعل الفردي
رغم أنه لا يكاد يخلو نظام عربي من وزارة للثقافة، فإن مبادرات الأفراد والمجتمع المدني أكبر منها في جوانب من الفعل الثقافي.
%90 من المحتوي الثقافي العربي على شبكة الإنترنت الآن صناعة فردية أو صناعة مجموعات ومراكز خاصة أو صناعة من خارج النطاق العربي، وفق الدراسة.
يترتب على هذه الحقيقية غياب المركز أو النقطة المرجعية التي يمكن من خلالها التحكم والسيطرة على هذا المحتوى. ورغم ما يبدو من فوضى -كما وصفت الدراسة- فإنني أرى أن هذا تمكين للفرد وزيادة في دوره وتعظيم لوظيفة الشبكات على حساب المؤسسات التي عادة ما تكون أبطأ في الاستجابة، وتتحكم فيها اعتبارات سياسية سلطوية تقوم على ضرورة التحكم والسيطرة وخدمة المالك، وهو ما يتنافى مع طبيعة الحياة المعاصرة.
الحرية التي يتطلع إليها الأفراد في قلب هذه العملية هي استعادة للذات الحرة في إنتاج المحتوى والتفاعل معه واستهلاكه، في مقابل السيطرة والتحكم والاحتكار الذي يحيط به في الفضاء السياسي، كما في المجال الاقتصادي والاجتماعي والديني.
ملأ الفراغ الثقافي الذي خلفته الدولة العربية المنهارة -كما في ليبيا واليمن والصومال- عدد من المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني. القراءة في ليبيا تحولت إلى مشاريع فردية وليست مشروعا تتبناه الدولة. جهود الأفراد والجمعيات والمؤسسات هي التي تقود حراك تحفيز القراءة.
في اليمن، ساهم في هذا بصورة غير مرئية على الساحة، المكتبات الشخصية للمثقفين النافذين في الأوساط القبلية على وجه الخصوص، الذين صارت مكتباتهم رصيدا للإعارة والقراءة في العديد من مناطق اليمن، وهي ظاهرة آخذة في الازدياد، وكأنها ملمح مقاومة للحرب وتبعاتها.
ثانيا: مشكل الهوية
لا يزال مشكل الهوية حاضرا لدي الجمهور العربي -خاصة الفئات الشابة- وإن اتخذ مظاهر جديدة، ولا يزال الدين -وفق استطلاعات الرأي– عنصرا هاما لدى الشباب العربي لتحديد هويتهم الشخصية، مع تزايد أهمية عوامل أخرى مثل الانتماء العائلي أو القبلي والوطني.
نحن بإزاء تعدد وتنوع في مكونات الهوية اتخذ شكل القراءة في المصادر الدينية، التي لا تزال تحتل المرتبة الأولى في مجالات القراءة، لكنها اتخذت ملمحين متكاملين:
- قراءة في كتب التراث، بالإضافة إلى المحتوى الديني المعاصر المرتبط بواقع الفرد والمجتمع.
- صاحب مسألة القراءة للمحتوى الديني الرجوع إلى التاريخ بكثافة. اتخذ ذلك مظاهر متنوعة كإعادة اكتشاف التاريخ الوطني بالإضافة إلى القراءة في التاريخ الإسلامي.
تنتهي الدراسة إلى أن كتب التاريخ هي الأكثر قراءة في العراق، وهذا يعود بوضوح لتساؤلات العراقيين بعد الغزو الأميركي عام 2003. بات القلق لدى المواطن العراقي في ظل ما يجري في العراق هو السمة الأساسية التي توجه سلوك القراء، فبدأت هذه الظاهرة بالبحث عن تاريخ العراق الملكي ومذكرات الساسة العراقيين، ومن ثم التاريخ العالمي، وذهب القراء إلى عراق العصور الإسلامية المختلفة.
هكذا كان البحث عن الذات العراقية عبر كتب التاريخ، ثم شاعت الكتب السياسية بكافة أشكالها، وقد امتد الأمر إلى عصور العراق في حضاراته القديمة، وقد بلغ القلق مداه، ومن ثم انعكس هذا على حركة النشر في العراق، ليجيء الكتاب الديني ليأخذ مكانه في ظل الأوضاع العراقية، وقد ذاع الكتاب الديني وانتشر في ظل قوى عراقية تدفع به.
لا تقتصر هذه الظاهرة على العراقيين بل نشهد مثيلا لها في كل دول المنطقة، هو إعادة اكتشاف للذات الفردية والجماعية على السواء. يرتبط بذلك ما أشارت إليه الدراسة من مراجعة لما يشيع في أحيان في الفضاء العام عن إدراكنا لذاتنا أو محاولة البعض أن يرسم لنا صورة عن أنفسنا تقوم على الاستثنائية، حين يصورنا باعتبارنا استثناء عن العالمين.
في عام 2021، بحسب أحدث بيانات “NOP World Culture Sore Index” الذي يقدم مؤشر الإنجاز الثقافي، والذي يصدر عن شركة ستاتيستا “Statista” الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين، بالاشتراك مع صحيفة إندبندنت البريطانية، فإن كلا من مصر والسعودية دخلتا ضمن الشعوب الأكثر قراءة عالميا.
جاءت مصر في المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر قراءة بمعدل 7.30 ساعات، في حين جاءت السعودية في المرتبة 11 عالميا بمعدل 6.46 ساعات أسبوعيا. احتلت الهند المركز الأول عالميا، في حين حلت تايلند في المركز الثاني، والصين في المركز الثالث، وجاءت الولايات المتحدة في المركز 23 دوليا بمعدل 5.42 ساعات أسبوعيا.
مصادر تكوين الهوية المتنوعة لا يقتصر فقط على المكونين الديني والتاريخي، بل يمتد إلى التنوع اللغوي الذي أطلقت عليه الدراسة “الازدواجية اللغوية” التي باتت تحكم قطاعا كبيرا من القراء العرب.
كانت دول المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) هي من تعاني من هذا الازدواجية بين العربية الفرنسية. أما الآن، فكل المؤشرات على شبكة الإنترنت تشير إلى تصاعد الازدواجية في القراءة باللغة الإنجليزية في مصر ودول الخليج والأردن، مع ظهور متصاعد للغة الإنجليزية في دول المغرب العربي.
جاء تصاعد الإنجليزية نتيجة لانتشار المدارس الأجنبية أولا، ثم في مرحلة لاحقة لإقرار الإنجليزية كلغة تعليم في العديد من الجامعات حتى في حقل الدراسات الإنسانية، بالإضافة إلى افتتاح فروع لجامعات أجنبية.
إننا بصدد حركة بحث عن هوية فردية وجماعية من خلال مصادر دينية وتاريخية متنوعة، وهي حركة ليست مغلقة على ذاتها، بل منفتحة على العالم بلا وجل ولا خوف، ويتمثل ذلك في ظاهرة الازدواجية اللغوية التي باتت صفة لصيقة بالقارئ الشاب العربي.
تتساءل الدراسة بشأن مآلاتها المستقبلية فتقول: “اتجاهات القراءة الورقية من قبل الشريحة الأساسية للقراء العرب تتجه للعربية ثم الإنجليزية وذلك من الأجيال الجديدة، لكن هذه الأجيال تندفع إلى القراءة الرقمية باللغة الإنجليزية بصورة تتصاعد زمنيا، بحيث يصبح التساؤل في المستقبل هل ستكون القراءة في المنطقة العربية رقميا باللغة الإنجليزية هي المفضلة؟”.
أخيرا وليس آخرا، فإن من يطالع الدراسة يلحظ استمرارا في تكوين هوية عربية جامعة ولو على المستوى الثقافي، رغم ما يحيط بها من إحياء للهويات القطرية من الدول العربية المختلفة.
تتغذى هذه الهوية العربية من روافد عدة أبرزها:
- وجود مشاريع ثقافية تتعدي المستوى القطري ليمتد تأثيرها إلى مجمل البلدان العربية مثل مشروع تحدي القراءة الذي أطلقته مؤسسة محمد بن راشد الذي شارك فيه ملايين الطلبة من العالم العربي وخارجه، بالإضافة إلى استمرار مشاريع قديمة مثل سلسلة عالم المعرفة التي لا تزال تصدر عن الكويت رغم مرور هذه العقود.
- يدعم هذه الظاهرة أيضا أن معرفة القارئ العربي بالرموز الثقافية والفكرية من البلدان العربية الأخرى باتت أكثر اتساعا، كما نلحظ في الرواية التي احتلت المرتبة الثانية في القراءة بعد الكتب الدينية.
- ساعد المحتوي الرقمي في شيوع الرموز الثقافية العربية وتجاوزها للحدود القطرية.
ثالثا: خطاب المعاش
أقصد به الخطاب العملي المباشر الذي يهدف إلى تقديم إجابات على أسئلة الناس الصغرى لا معضلات الوجود الكبرى.
تلحظ الدراسة 3 ظواهر متكاملة:
- انتشار الكتب المستوحاة من الخبرات اليومية للقراء وانتشارها اعتمادا على شهرة وتأثير شخص ما على صفحات التواصل الاجتماعي.
- القراءة في المشكلات المجتمعية المعاصرة بحثا عن إجابة على مشكلات الفرد في علاقته بنفسه وزوجته وأولاده وغيرهم.
- البحث عن المستقبل، وهو نتاج شعوره بعدم اليقين تفرضه التطورات التكنولوجية والاقتصادية وتغير العالم من حوله.
في الدراسة يمكن أن نلحظ كيف يؤثر السياق السياسي فيما نقرأ ونطالع. إن طغيان كتب اليوغا وعلوم الطاقة والتأمل والاسترخاء في سوريا هو هروب من القارئ السوري لمتنفس بعيد عن الضغوط المتعددة الواقعة عليه.
أظهر مؤشر القراءة أن اللبناني يقرأ 59 ساعة سنويا، لكن هذا في تراجع مستمر -حتى في ظل جائحة كورونا- ولعل أحد الأسباب هو حالة الإحباط والعزوف العام عن كل شيء في ظل واقع منهك.
إن إغلاق العديد من دور النشر اليمنية وهجرة العديد من الكتاب والمثقفين -خاصة إلى القاهرة- أثر بالسلب على حركة القراءة والثقافة في اليمن، لكن نشر هؤلاء كتبا خارج اليمن أدى إلى اتساع المعرفة العربية بالأدباء والكتاب اليمنيين، وهذا هو الوجه الإيجابي في مسألة الهجرة.