تحت أشعة شمس لوس أنجلوس الساطعة في الولايات المتحدة خرجت أعداد غفيرة من ممثلي هوليود يرفعون لافتات احتجاجية على تدني الأجور، ويبدو في خلفيتهم شعار أستوديوهات يونفيرسال (Universal Studios)، في مشهد يبدو أقرب للخيال السينمائي.
وهو أمر بعيد عن الواقع فعلا لأنه لم يتكرر منذ زهاء 60 سنة، فهنا قلعة الرأسمالية الحصينة وحلم السينما والثراء الذي يغري المبدعين حول العالم، وهنا الإنفاق بعشرات الملايين وجني الأرباح المليارية. والحقيقة أنها هي حركة احتجاجية مزدوجة ينضم فيها ممثلو هوليود إلى كتاب السيناريو المضربين منذ شهر مايو/أيار الماضي احتجاجا على ضعف الرواتب.
ممثلو هوليود المضربون وكتاب السيناريو يعزون أزمة الرواتب إلى انتشار البث الرقمي وضعف عوائد شباك التذاكر بالإضافة للدور المتعاظم للذكاء الاصطناعي في عملية الإنتاج. وجاء ذلك إثر فشل المفاوضات بين نقابة ممثلي هوليود وممثلي المنصات الرقمية والأستوديوهات الكبرى.
لا نبالغ بالقول إن القطاع السينمائي في الولايات المتحدة يواجه نقطة تحول غير مسبوقة لأن هذا هو فحوى البيان الذي وقّع عليه مشاهير الممثلين مثل ميريل ستريب وجنيفر لورنس وبن ستيلر. الأمر هنا يتعلق ظاهريا بالرواتب وبحلول تقنيات الذكاء الاصطناعي محل المبدعين في كثير من الأعمال السينمائية مما يخصم من رصيدهم المادي والمعنوي. ويتعلق فعليا بأزمة مزدوجة أميركية عامة وسينمائية خاصة، تتعلق بشكل وجوهر الإنتاج السينمائي التجاري الذي تتربع السينما الأميركية على عرشه.
أزمة على الصعيد الأميركي
بداية ينبغي التعامل مع أزمة هوليود ليس كأي أزمة عمال وموظفين، ولكن أزمة على الصعيد الأميركي وأزمة أخرى على الصعيد الفني والإبداعي. فعلى الصعيد الأميركي، تشكل هوليود أحد مراكز الثقل المهمة في الولايات المتحدة على صعيد الاقتصاد والقوى الناعمة والسياسة، وبالتالي فإن أي تحول كبير فيها يؤثر بالطبع على واحدة من الأعمدة الأميركية.
لستُ من مؤيدي التأثير السياسي المباشر لواشنطن على هوليود وإن كنت لا أنفيه بالكلية، لأنه في الحقيقة هوليود في ظل النظام الأميركي أكبر وأهم من أن تخضع بسهولة للتأثير السياسي الإملائي. بل العكس أحيانا هوليود هي من تؤثر على السياسة الأميركية كما ذكر البروفيسور ستيفن روز في كتابه “هوليود اليمين واليسار” والذي شرح فيه تأثير نجوم من هوليود على مسار السياسة الأميركية سواء من ذوي التوجهات اليمينية أو اليسارية.
لهذا فإن الإضرابات التي تجاوزت الشهرين الآن من دون وجود آلية داخلية لحلها يشبه إلى حد بعيد دخول أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب إلى مبنى الكونغرس من ناحية السياق غير الطبيعي للحدث والغضب وفقدان القدرة على الوصول لحلول وسط. وهو حدث وقع في العاصمة السياسية واشنطن قبل عامين. وحادث الإضراب وقع في العاصمة الفنية الآن.
وضعت الشركة المنتجة في نهاية الفيلم كلمة “ذكاء اصطناعي + عامل بشري” بدلا من اسم المصمم البشري. فثارت ثائرة كثيرين في اليابان واتهموا الشبكة بالسطو على واحدة من الفنون التراثية اليابانية لأن الذكاء الاصطناعي ما كان سيولد مثل هذه الرسومات من دون رسومات فنانين حقيقيين آخرين يمتلكون حقوق الملكية لهذه الرسومات
أزمة على الصعيد الفني
أما على الصعيد الفني، فقد عرف الإنتاج السينمائي قفزات تقنية خلال العقود والسنوات الماضية اختفت فيها وظائف وظهرت أخرى، فقد تلاشت كثير من الوظائف اليدوية أثناء التصوير والعرض السينمائي وظهرت وظائف جديدة مثل مصممي الغرافكس وغيرها من المهام. ولم يحدث أن ثار قطاع من العاملين في السينما الهوليودية بهذه الطريقة بسبب دخول التقنية عالم الإنتاج، لهذا فإن التأثير المباشر على دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم السينما والتأليف على الأزمة الهوليودية الحالية هو تأثير غير رئيسي من هذه الزاوية.
مكمن الأزمة في رأيي أنها كاشفة عن نوعية الإبداع الذي تعتمده هوليود. وحتى نفهم هذه النقطة نسوق حالة من الاحتجاجات طالت شبكة نتفليكس في اليابان في شهر فبراير/شباط الماضي حين بثت الشبكة فيلم رسوم أنمي قصيرا بعنوان “الكلب والولد” للمخرج الياباني لوتارو ماكيهارا. كان الغرض منه إظهار قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على توليد رسومات فنية تحاكي رسومات الأنمي اليابانية التي يقوم بها فنانون هناك.
وضعت الشركة المنتجة في نهاية الفيلم كلمة “ذكاء اصطناعي + عامل بشري” بدلا من اسم المصمم البشري. وهنا ثارت ثائرة كثيرين في اليابان واتهموا الشبكة بالسطو على واحدة من الفنون التراثية اليابانية، لأن الذكاء الاصطناعي ما كان سيولد مثل هذه الرسومات من دون تغذيته برسومات فنانين حقيقيين آخرين يمتلكون حقوق الملكية لهذه الرسومات.
وبالتالي فإن الذكاء الاصطناعي في حقيقة الأمر ليس مؤلفا حسبما يقولون. وحاولت الشبكة احتواء الأمر بعد أن اتهمها الفنانون بأن ادعاءها اللجوء للذكاء الاصطناعي من أجل تصميم الرسومات جاء بسبب ندرة الفنانين غير صحيح وأن الفنانين متاحون للعمل.
لا تملك الولايات المتحدة فنونا تراثية مدمجة في قطاع الإنتاج السينمائي مثل اليابان لأنها تعتمد على فلسفة فنية أخرى في الإنتاج والإخراج يحتل فيه الربح والاستثمار والإبهار البصري موقع الصدارة. ولهذا فإن دور المبدع في إنتاج الفيلم يتمحور حول النجم الشهير والبطل وأحيانا المخرج.
وهي أقرب للمصنع المنتج الناجح، وموقع المبدع أقرب ما يكون فيه للعامل أو الترس. ولا ينازع كثيرون في هذه الصيغة لأنها قائمة على علاقة تعاقدية تضمن راتبا جيدا يكفل دخلا يغطي فترات عدم الإنتاج أيضا وأحيانا قدرا من الشهرة. وحين بدأت هذه العلاقة في التحول بسبب تغير نمط الإنتاج اهتز عرش التعاقد.
نحن هنا لا نتحدث عن مشاكل المؤسسات الرأسمالية وإن كان هناك قدر من التماس مع هذه المشاكل، بل نتحدث عن مدى تجذر الفن والإبداع في بنية الإنتاج السينمائي الأميركي بشكل يضمن بعض الحماية والتقدير للمبدعين بعيدا عن فكرة الربح والخسارة.
ولهذا ربما يفضي هذا الإضراب لخسائر بعشرات الملايين من الدولارات، وهي مبالغ رغم ضخامتها فإنه يمكن تعويضها ضمن هذه الصناعة، وما لا يمكن تجاوزه هو شعور النقابات بالقوة والقدرة على التأثير الذي تجاوز إيقاف تصوير عدد من الأفلام إلى التأثير على عدد من المهرجانات السينمائية العالمية التي أعلن عدد من النجوم عدم حضورها تضامنا مع الإضراب.