تحدثنا في مقالنا السابق عن ارتكاز الدكتور محمد البهي في فتاويه على العلوم الإنسانية، وكيف اتخذها دليلا يعضد به الدليل النصي، سواء في التحريم أو الإباحة، وكيف يفسر بعض النصوص الدينية بآليات التفسير المعهودة لدى العلماء، وزاد عليها بأن استند للعلوم الإنسانية في تفسير بعض النصوص.
وهذا الاستناد لم يغب عن الشيخ البهي في معظم فتاواه، سواء كانت الفتاوى متعلقة بالعقيدة، أم بالتقاليد، أم بالقضايا الاجتماعية كالزواج والطلاق والعمل، وغيرها، ونتناول في مقالنا هذا أثر العلوم الإنسانية في فتاويه المتعلقة بالعقيدة.
وقد أطلق البهي على فتاوى العقيدة عنوان: “في دائرة الألوهية والواجبات الدينية”، وقد كان أصدر من قبل كتابا جديدا لم يسبق إليه في عنوانه، وهو: الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي، وقصد بذلك تناول الفلسفة والفلاسفة لقسم الإلهيات، وما يتعلق بوجود الله تعالى.
حساب الله للإنسان على كفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان.. أو لأنه لم يستجب باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كلتا الحالتين، بجانب إرادة الله جل شأنه
القضاء والقدر وإرادة الله والإنسان
من أكثر المسائل العقدية إشكالا، وأسئلة، في عصرنا الحديث ومن قبل، قضية القضاء والقدر، وهل للإنسان إرادة فيما أراده الله عز وجل، أم أنه مجبر عليها، ولا اختيار له فيها، وكيف تلتقي إرادة الله وعبده في فعل ما؟ وقد أجاب البهي عن هذا السؤال في أكثر من موضع من كتابه: (رأي الدين بين السائل والمجيب)، تارة بالتفصيل، وتارة بالإيجاز، وفي كلتا الإجابتين لم تخل عباراته من الوضوح، والإقناع.
يقول البهي مبينا كيف خلق الله الإنسان: “الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على وضع خاص.. خلقه من بدن، ومن عقل.. خلقه من بدن تتكفل به الغرائز وهي مصادر الشهوة والهوى في الإنسان، وخلقه من عقل يتكفل به سمعه وبصره وإدراكه.
وجعل بين الطرفين في تركيب الإنسان أو في طبيعته صراعا خفيا. فبينما الغرائز تدفع الإنسان في غير شعور، إذا بالعقل يحاول وقف اندفاع الغرائز ويحاول توجيهها. والإنسان إذن فيه مصدر الحركة، وهو الغرائز.. ومصدر القيادة والتوجيه وهو العقل أو الإدراك. وكلما كانت الغرائز قوية كانت مهمة العقل أصعب.. وكان الصراع بين الطرفين أشد.
وإذا كانت للإنسان قيادة ذاتية، ممثلة في العقل، فله إرادة واختيار، والإرادة هي الظاهرة المميزة للإنسان. والإنسان إذن هو صاحب مشيئة، واختيار، وإرادة، كما هو صاحب حركة ذاتية، يسعى في الأرض، ويتفكر في خلق السماوات والأرض، ويختار السبيل الذي يرضاه: “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون” (الأنعام: 125).
ثم يبين البهي الفرق بين إرادة الله، وإرادة الإنسان، وفي أي مساحة يلتقيان أو يفترقان، فيقول: “فلله إرادة في إيمان المؤمن وفي ضلاله.. وللإنسان كذلك اختيار في إيمانه وفي ضلاله، فأما إرادة الله فهي مساعدة من يهتدي بإرادته على إنجاز هدايته بأن يشرح صدره للإسلام: “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام..”، وأما إرادة الإنسان فهي في إنجازه للهداية على ضوء انشراح صدره من الله لها.
وأما إرادة الله في ضلال من يكفر فهي أن يجعل صدره ضيقا حرجا: “ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء”. وإرادة الكافر لكفره تتمثل في أن يضيق صدره بما يذكر الله ولا يرى إشعاع هدايته، فيظل في ظلام الضلال والحيرة.
وحساب الله للإنسان على كفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان.. أو لأنه لم يستجب باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كلتا الحالتين، بجانب إرادة الله جل شأنه”.
العلاج بالقرآن من الأحلام المزعجة
سُئل البهي عن طالب بإحدى المدارس الإعدادية ينسى كثيرا، ويحلم أحلاما مزعجة مع أنه يقرأ آيات قرآنية قبل نومه، فماذا يصنع؟
وقد انتشر وقت سؤال البهي، ما عرف بالعلاج بالقرآن، فبين البهي أن وظيفة القرآن الأولى هي هداية الناس إلى الطريق المستقيم في السلوك، وهي تجنب الناس الانحراف فيما يصدر عنهم من معاملات وأفعال، ومواقف. قال تعالى: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا. وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما” (الإسراء: 9-10).
وليس من أهداف القرآن أن يتخذ وقاية من مرض عضوي، أو علاجا من خلل في الأجهزة العضوية للبدن، نعم قد تحدث كتاب الله فوصف نفسه بأنه شفاء، في قوله تعالى: “وننزل من القرآن ما هو شفاء” (الإسراء: 82)، ولكنه شفاء للنفوس من الحيرة والضلال، والقلق والاضطراب الناشئين عن عدم الهداية إلى الصراط السوي، هو شفاء للصدور من الأحقاد والبغض للآخرين: “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور” (يونس: 57).
فالقرآن بهدايته إلى الطريق المستقيم، والطريق التي هي أقوم، يشفي النفوس المريضة بالضلال، ولكنه لا يشفي الأبدان من أمراض جسدية تصيبها. نعم إذا شفيت النفوس المريضة بالضلال فإن شفاءها عن طريق اتباعها لهداية الله سيؤثر تأثيرا إيجابيا على أبدانها، في طاقتها على التحمل والصبر على المكاره، وفي مواجهة الأزمات.
ونصح البهي أن يعرض أهل المريض مريضهم على طبيب بشري أو نفسي لعلاجه، وأن يظل على تلاوته للقرآن، وأن يعتقد: أن شفاء القرآن بهدايته، هو شفاء للأمراض الاجتماعية بين الناس، وشفاء لأمراضهم النفسية بسبب الأنانية وطغيان النفوس. مع اللجوء للطبيب لعلاج ما بالبدن من أمراض.
توجيه اجتماعي ونفسي بالدعاء على الأبناء
من الأسئلة التي وجهت للبهي ما يلي: لي أم وإخوة لا يريدون مني أن أقف بجانب الحق، فإذا أصررت دعت علي أمي بأن يصيبني الله بالمرض، وقد أصبت بالمرض الآن، فهل تلك الإصابة قضاء وقدر، أم نتيجة لاستجابة الله لدعائها؟ فأجاب البهي السائل، بتوجيهه إلى حاله النفسي والاجتماعي، لا حال من دعا عليه، فقال:
“المرض الذي أصيب به -ولم يحدده السائل في سؤاله- يجوز أن يكون متصلا بسوء التقدير، وسوء التوهم، وسوء التخيل. فهو مرض نفسي أو عقلي، وليس لدعاء الوالدة دخل فيه، وإنما يعود إلى الظروف التي نشأ فيها أو إلى الوضع الأخير إلى الله، وإلى قضائه وقدره”.
ويكمل “والوالدة مهما غضبت، فلا تتغير نفسها من ابنها إلى حد أن تتمنى مرضه، وبالخصوص إذا كان مرضا نفسيا أو عقليا. لأنه من الأمراض التي يطول أمرها. وما ورد في القرآن من قول الله تعالى: “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم” (غافر: 60)، يعني به سبحانه أن من يتجه إليه وحده بعبادته، فالله يغفر له أخطاءه الماضية قبل الإيمان، ويثيبه بثواب المؤمنين. فالدعاء هو عبادة الله وحده، والاستجابة هو الغفران والثواب”.
تفسير اجتماعي للمسيخ الدجال والمهدي
مسألة المسيخ الدجال ووجوده، كشخص ينزل بين الناس لنشر الفساد، ونزول المهدي لإنهاء فساده، وفساد الدنيا، قضية اشتجرت فيها الأقلام، والكتب، قديما وحديثا، وقد سئل فيها البهي في فتاويه، ولم يناقش الشيخ في إجابته النصوص التي وردت في موضوعي المسيخ الدجال، والمهدي، وهي قضية تكلم فيها علماء الحديث، وعلماء العقيدة، بناء على قناعتهم بالنصوص النبوية الواردة في الموضوع، من حيث الصحة أو الضعف.
لكن البهي اتخذ سبيلا آخر للإجابة، مستندا فيه إلى تضلّعه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذهب إلى مساحة لا ينكرها من يؤمن بالمسيخ الدجال والمهدي، ولا من ينكر أحاديثهما ونزولهما، فبين أن ما يحكى عن نزولهما، أن نزول الأول متعلق بانتشار الفساد، والتحلل من القيم الأخلاقية، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات، والمهدي نزوله كذلك، مرتبط بالإصلاح وإشاعة الاستقرار والقيم الإنسانية.
يقول البهي: “ويبدو أن المسيخ الدجال رمز لبلوغ تطور المادية أقصى نهايتها، وكذلك المهدي رمز لحلول (الروحية) الإنسانية محل المادية في المجتمعات الإنسانية. وبدلا منها، إذ هذه المجتمعات يدور أمرها بين هذين الوضعين: وضع المجتمع المادي، ووضع المجتمع الإنساني أو الروحي.
فإذا وصلت المادية في مجتمع بشري إلى طغيانها فسادت فيه الفوضى وانتهاك الحرمات والعبث، والسعي إلى القوة المادية والعصبية وإغفال العلاقات بين الإخوة وأفراد الأسرة الواحدة، عندئذ ينتظر سقوط هذه المادية بحرب لا تبقي ولا تذر، أو بكوارث لا تدع أثرا لعمران على أرض هذا المجتمع. كما ينتظر أن يحل محلها ما يسمى بالروحية الإنسانية، وهي العنوان للوضع الآخر للمجتمع البشري الذي تروج فيه القيم الإنسانية.
وإذا جُعل المسيخ الدجال والمهدي المنتظر من أمارات الساعة، فإن انتقال المجتمع البشري من وضع إلى وضع؛ من وضع مادي إلى وضع إنساني، أو العكس، يعد أمرا طبيعيا. أي يعد من شؤون تطوره، فالمجتمع إما أن يسقط إلى أدنى أو يسمو إلى أعلى، وسقوطه إلى أدنى هو خلوده إلى الأرض وارتباطه بالماديات وحدها، وسموه إلى أعلى هو تفهمه للروابط الإنسانية: قال الله تعالى “واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” (الأعراف: 175-176).
وهناك فتاوى أخرى كثيرة في باب العقيدة، ولكنا ذكرنا نماذج لها، والمتأمل لمنهج البهي في فتاوى العقيدة، سيجد أنه يعلي من شأن الوحي ويجعل البدء والانتهاء منه وإليه، ثم يستخدم العلوم الإنسانية والعقلية في إطاره، وأحيانا يفهم النصوص المتعلقة بالعقيدة من خلالها، بما لا يتعارض مع الوحي، خاصة لو لم يفصل الوحي في القضية، أو كان المعنى يحتمل عدة معان، ولم يلزم فيها بشكل محدد، فقضايا العقيدة غيبية، والغيب لا يبحث فيه إلا عن طريق الوحي، وبقية العلوم مكملة، في سياقها وإطارها الصحيح.