عكس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل مفاجئ التوقّعات بخصوص مسار أزمة عضوية السويد في حلف الناتو عندما أبرم صفقة مع ستوكهولم قبيل ساعات من قمة الناتو في فيلنيوس. وتعهّد أردوغان بموجب الصفقة بعرض بروتوكول ضم السويد للناتو على البرلمان التركي من أجل المصادقة عليه مقابل تعهد السويد والحلف بالعمل الوثيق مع أنقرة لمعالجة مخاوفها الأمنية المشروعة إزاء الإرهاب، وإزالة القيود التي تفرضها دول في الحلف على مبيعات الأسلحة لتركيا، فضلا عن تعهد ستوكهولم بدعم الجهود المبذولة لتنشيط عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تحديث الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا وتحرير التأشيرة للأتراك.
إلى جانب ما ورد في الصفقة، تعهدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بالعمل على إتمام صفقة بيع تركيا مقاتلات “إف-16” F-16 وتحديث أسطولها الجوي. تُعطي هذه التعهدات انطباعا بأن أردوغان نجح في قضية توسيع الناتو بانتزاع مكاسب من الغرب أكثر مما كان يُتوقع.
رغم أن التعهدات الأميركية الجديدة لتركيا بإتمام هذه الصفقة، لعبت دورا تحفيزيا رئيسيا لأنقرة لإبرام الصفقة الأخيرة مع السويد، فإن إتمام الصفقة غير مؤكد تماما
مع استثناء البند المتعلق بالعلاقات التركية الأوروبية، الذي لا يزال من غير الواضح كيف سيتم التعامل معه، لأن الاتحاد الأوروبي لم يكن أصلا طرفا في هذه الصفقة، فإن البنود الأخرى أكثر وضوحا من حيث أطرافها وسبل تنفيذها.
في ملف مكافحة الإرهاب على سبيل المثال، اتفقت تركيا والسويد على تشكيل آلية أمنية ثنائية على أن تُقدم الأخيرة في أول اجتماع للآلية خارطة طريق لتشديد مكافحتها للإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره بما في ذلك الامتناع عن تقديم أي دعم لوحدات حماية الشعب الكردية الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني المحظور، ومنظمة غولن التي تُصنّفها تركيا إرهابية. يُشير هذا البند إلى أن أنقرة ستنتظر خطوات سويدية ملموسة في مكافحة الإرهاب قبل المضي قدما في عملية التصديق على العضوية.
فيما يتعلق بالبند الخاص بإزالة القيود على تجارة الأسلحة بين الحلفاء، فإن كون هذا التعهد صدر من حلف الناتو، فإنه ملزم لجميع دول الحلف خصوصا تلك التي تفرض عقوبات وقيودا على مبيعات الأسلحة لتركيا مثل الولايات المتحدة وكندا. رفعت كل من السويد وفنلندا بالفعل الحظر الذي كان مفروضا على بعض مبيعات الأسلحة لتركيا، في حين أن كندا لا تزال تفرض حظرا مشابها، لكنها وعدت باستئناف المحادثات مع أنقرة بشأن إزالة القيود.
القيود والعقوبات الأميركية على تركيا في مجالات الدفاع تبدو أكثر تعقيدا من حيث طبيعتها وظروفها السياسية، ومن غير المرجح أن يحدث تحول كبير عليها بموجب الصفقة. لا تزال واشنطن تفرض عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية بعد أن اشترت تركيا منظومة “إس-400” S-400 من روسيا في عام 2019 وأخرجت أنقرة من مشروع التصنيع المشترك لمقاتلات “إف-35” F-35.
لكن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن سعت منذ فترة إلى إيجاد مخرج للأزمة مع تركيا في هذه القضية من خلال إبداء استعدادها لبيع تركيا دفعة من مقاتلات “إف-16” ومعدات غيار لتحديث أسطولها الجوي. بالنظر إلى أن واشنطن لا تزال تُرهن إنهاء العقوبات بتخلي تركيا عن منظومة “إس-400″، وبالنظر إلى أن الأخيرة ترفض هذا الشرط، فإن صفقة “إف-16” بدت كحل وسط ومؤقت بين أنقرة وواشنطن.
رغم أن التعهدات الأميركية الجديدة لتركيا بإتمام هذه الصفقة، لعبت دورا تحفيزيا رئيسيا لأنقرة لإبرام الصفقة الأخيرة مع السويد، فإن إتمام الصفقة غير مؤكد تماما. سيتعين على إدارة بايدن إقناع المشرعين في الكونغرس بتمرير الصفقة، لكنه بالنظر إلى أن المشرعين المعارضين لها يُرهنون الموافقة عليها بمصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد في الناتو، فإنه من غير المرجح أن تقوم تركيا بالمصادقة قبل الحصول على ضمانات واضحة من واشنطن بإتمام صفقة المقاتلات الجوية.
حقيقة أن أردوغان تجنب تقديم جدول زمني مُحدد للمصادقة على عضوية السويد في الصفقة، تخلق هامشا جديدا له للمناورة والتراجع في حال لم تف الأطراف المعنية في هذه الصفقة بالتزاماتها. إذا كانت الصفقة قد حددت مسارا واضحا لمعظم الالتزامات الأخرى مثل تشديد السويد في مكافحة الإرهاب ورفع القيود عن تجارة الأسلحة بين الحلفاء، فإن البند المتعلق بالعلاقات التركية الأوروبية يفتقر إلى آليات واضحة لكيفية تنفيذه.
نظريا، لم تتضمن الصفقة التزاما من الاتحاد الأوروبي بإعادة تحريك عملية ضم تركيا له وتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي معها ورفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى دوله، لكنّ تمسك أردوغان بتحقيق هذه المطالب مقابل إتمام المصادقة على عضوية السويد يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي تجاهل فعل شيء، لأن اتخاذ مثل هذه القرارات يتطلب موافقة جميع دول الاتحاد، فإن مشاكل تركيا مع اليونان وقبرص الجنوبية قد تؤدي إلى خلق إشكاليات جديدة، وتُراهن أنقرة هذه المرة على الولايات المتحدة لممارسة ضغوط على الاتحاد الأوروبي لإعادة تنشيط العلاقات التركية الأوروبية.
بينما أثارت الصفقة الكثير من التساؤلات عما إذا كانت تركيا قد شرعت في تموضع جيوسياسي جديد من خلال التقرب مع الغرب والابتعاد عن روسيا، وهو أمر لا يُمكن الجزم به، ليس فقط لأن نجاح الصفقة غير مؤكد، بل لأن أنقرة لا تزال حريصة على الحفاظ على شراكتها الحيوية مع موسكو، فإن الصفقة تكشف عن رغبة أردوغان في تحقيق 3 أهداف رئيسية.
- أولا، إجبار الغرب على تبني مقاربة منسجمة معها في مكافحة الإرهاب.
- وثانيا، إزالة القيود على صادرات الأسلحة الغربية إلى تركيا.
- وثالثا الحصول على مكاسب اقتصادية من وراء تنشيط العلاقات التجارية بين تركيا والدول الغربية وتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي وتحرير التأشيرة.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار هذه الأهداف الثلاثة الواضحة، فإنها ستعود بالمنفعة المشتركة على أنقرة والغرب، لكنها لن تؤدي بالضرورة إلى إحداث تحول عميق في مسار العلاقات التركية الغربية. ستبقى بعض الخلافات الرئيسية قائمة بين الطرفين، مثل الدعم الأميركي للوحدات الكردية والقضية القبرصية والخلافات التركية اليونانية المزمنة.
مع ذلك، فإن إعادة تصويب مسار العلاقات مع أردوغان تُساعد أردوغان في توفير الظروف المناسبة لإنجاح سياسته الاقتصادية الجديدة وإحداث موازنة حقيقية في العلاقات مع الغرب وروسيا. بهذا المعنى، فإن مساعي التقارب مع الغرب تُجسد واقعية أردوغان في السياسة الخارجية ولا تعكس تحولا جيوسياسيا نحو الغرب.