للوهلة الأولى، بدا من المستهجن أن يتمثل الاستخلاص الأبرز الذي خلصت إليه القيادتان العسكرية والسياسية في إسرائيل، بعد أقل من أسبوع على انتهاء العملية العسكرية الواسعة في جنين، في وجوب تعزيز حضور السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ومنعها من الانهيار عبر سلسلة من التسهيلات الاقتصادية.
وقد كان من المفارقة أن هيئة أركان جيش الاحتلال تحديدا، وهي التي قادت الحرب الإجرامية على جنين، تمارس ضغوطا كبيرة على حكومة بنيامين نتنياهو لعقد اجتماع خاص لهيئتها الأمنية المصغرة من أجل بحث خطة متكاملة لمساعدة السلطة.
لكن إذا تمعنا في المسوغات التي طرحتها القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية لتفسير حماسها الشديد للحفاظ على السلطة الفلسطينية، فلن يكون هناك مجال للاستهجان والاستغراب.
بموازاة الحماس الإسرائيلي الرسمي لبقاء السلطة الفلسطينية، هناك أزمة ثقة عميقة بين الجمهور الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بسبب طابع الوظيفة الأمنية التي تؤديها لصالح إسرائيل، في حين لا تحرك ساكنا لوقف عدوان جيش الاحتلال وتغول المستوطنين اليهود على البلدات والقرى الفلسطينية الواقعة في تخوم المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية
ففي مقابلة أجرتها قناة “كان” التابعة لسلطة البث الرسمية مساء السبت الماضي، قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي إن انهيار السلطة الفلسطينية لا يخدم المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية “بسبب الدور الأمني المهم الذي تلعبه”. وكان هنغبي أكثر وضوحا عندما قال: “حسب الاتفاقات الموقعة بيننا وبينهم، فإن الدور الرئيس المكلفين به هو مكافحة الإرهاب”، يقصد المقاومة الفلسطينية، مؤكدا أن السلطة أثبتت في الماضي أن لديها إرادة في مواجهة عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وقد كان لافتا بشكل خاص أن هنغبي قد ربط بين مستوى قوة وحضور السلطة في مدن الضفة الغربية وبين تباين مستوى الجهد الحربي الذي ينفذه جيش الاحتلال فيها، إذ أشار إلى أن إسرائيل اضطرت للعمل عسكريا في مدينتي جنين ونابلس بكثافة خلال العام الماضي تحديدا بعد أن تهاوت مكانة السلطة فيهما بشكل نهائي، في حين أن حفاظ السلطة على نفوذها في مدن الضفة الأخرى قلص من حاجة جيش الاحتلال للعمل فيها.
ليس هذا فحسب، بل أن هنغبي أقر بأن الاجتماعين الأمنيين اللذين عُقدا في العقبة وشرم الشيخ خلال فبراير/شباط ومارس/آذار من العام الجاري -بمشاركة ممثلين عن السلطة، وإسرائيل، ومصر، والأردن، والولايات المتحدة- بحثا بشكل أساسي سبل تمكين السلطة الفلسطينية من إعادة سيطرتها على جنين ونابلس.
من جهته، عبّر نتنياهو شخصيا عن موقفه المدافع عن الحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية، إذ نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عنه في أثناء إفادة قدمها أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الأسبوع الماضي قوله إن “مصلحة إسرائيل تقتضي وجود سلطة فلسطينية قوية”.
وقد عبرت القيادة العسكرية الإسرائيلية بشكل صريح عن مخاوفها من تعاظم كلفة الجهد العسكري الذي سيتحمله جيش الاحتلال، في حال فقدت السلطة الفلسطينية نفوذها في بقية مناطق السلطة. فقد نقلت قناة “كان” عن رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي يوم 23 مايو/أيار الماضي قوله: “نفضل وجود سلطة فلسطينية فاعلة ونشطة على سيادة حالة من الفوضى، أو تمكن حركة حماس من الهيمنة على الضفة الغربية”.
مما يؤجج رغبة إسرائيل في الحفاظ على السلطة حقيقة أن بقاءها يساعد جيشها على التفرغ لمواجهة التحديات الكبيرة في الساحات الأخرى، حيث اضطر هذا الجيش للدفع بعدد كبير من ألويته وكتائبه ووحداته الخاصة للعمل داخل الضفة الغربية في وقت يتعاظم فيه التوتر، تحديدا على الجبهة الشمالية في أعقاب نصب حزب الله خياما له في منطقة مزارع شبعا التي تعدها إسرائيل جزءا من أراضيها.
إلى جانب ذلك، فإن بقاء السلطة يمثل مصلحة اقتصادية من الطراز الأول لإسرائيل. ففي سلسلة تغريدات على حسابه على تويتر، أشار نمرود نوفيك -مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين- إلى أن وجود السلطة يوفر على الخزانة الإسرائيلية 50 مليار شيكل سنويا (نحو 14 مليار دولار)، على اعتبار أن عدم وجود السلطة سيلزم إسرائيل بتوفير الخدمات المختلفة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، استنادا إلى القانون الدولي، بوصفها قوة احتلال.
صحيح أن جنون التطرف الذي استبد بممثلي اليمين الديني المتطرف في حكومة نتنياهو دفعهم لرفض تقديم التسهيلات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، إلا أن الحجج التي ساقها قادة المستوى السياسي والعسكري في تل أبيب لتسويغ مساعدة السلطة تدل بشكل لا يقبل التأويل على أن بقاء هذه السلطة يعد مصلحة إسرائيلية من الطراز الأول.
المؤسف، أنه بموازاة الحماس الإسرائيلي الرسمي لبقاء السلطة الفلسطينية، فإن هناك أزمة ثقة عميقة بين الجمهور الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بسبب طابع الوظيفة الأمنية التي تؤديها لصالح إسرائيل، في حين لا تحرك ساكنا لوقف عدوان جيش الاحتلال وتغول المستوطنين اليهود على البلدات والقرى الفلسطينية الواقعة في تخوم المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية.
وقد تم التعبير عن خيبة الأمل الفلسطينية الشعبية من السلطة على لسان أحد مواطني بلدة ترمسعيا، القريبة من رام الله، الذي انفجر في وجه رئيس وزراء السلطة محمد اشتية، بحضور وسائل الإعلام، محملا السلطة المسؤولية الأولى عن هجمات المستوطنين على الأهالي في البلدات والقرى الفلسطينية لتقصيرها في حماية الأهالي هناك.
وقد عكست نتائج استطلاعات الرأي تهاوي ثقة الفلسطينيين في السلطة وخياراتها، فحسب استطلاعات الرأي العام المتواترة التي يجريها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (مؤسسة مستقلة)، فإن أكثر من 60% من الفلسطينيين يطالبون بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل، إذ إن 79% منهم يرى أن السلطة لم توقف التعاون الأمني رغم إعلانها ذلك، في حين أن أكثر من 80% منهم يرفضون أن تسلم حركات المقاومة في الضفة أسلحتها للسلطة الفلسطينية، فضلا عن أن 77% يرون أن على رئيس السلطة محمود عباس الاستقالة فورا.
وحتى من دون الإشارة إلى هذه الاستطلاعات، فإنه لا يوجد ما يسوغ أن تواصل السلطة الفلسطينية التملص من الالتزام بقرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي القاضية بتغيير مسار العلاقة بين السلطة وإسرائيل، وضمن ذلك وقف التعاون الأمني. ويفترض أن تلتزم السلطة بقرارات المجلسين كونهما يمثلان أهم مؤسسات منظمة التحرير، التي تعد مرجعية هذه السلطة.
إن تشبث السلطة الفلسطينية بمواصلة التعاون الأمني مع إسرائيل يعد مكافأة لجيش الاحتلال، الذي يمارس العدوان على صعيد يومي، وللتنظيمات الإرهابية اليهودية التي تشن الهجمات الإرهابية على القرى والبلدات الفلسطينية.
بكل أسف فإن قيادة السلطة تأبى استخلاص العبر من رفض أهالي جنين استقبال قياداتها المتنفذة بعد انسحاب جيش الاحتلال، احتجاجا على سلوك هذه السلطة في أثناء العدوان على المدينة ومخيمها.
ومما تقدم يتضح بشكل لا يقبل التأويل أنه يجب على الفلسطينيين العمل بكل ما أوتوا من قوة لضمان إجبار السلطة على وقف سلوكها ونهجها الحالي، فلا يمكن لشعب واقع تحت الاحتلال أن يقبل بسلطة يمثل بقاؤها مصلحة للقوة التي تمارس الاحتلال.