تناولت -في مقال الأسبوع الماضي- مفهوم “فقه الأقليات المسلمة”، وأوردت جملة انتقادات على الرؤية المؤسسة له من حيث إنه لم يكن نتاج التقليد العلمي الفقهي، وإنما يعبر عن لون من ألوان الفقه الحركي الذي حاول إسناد “الجماعة المسلمة” المتشكلة في السياق الأوروبي بلون جديد من الفقه حاول التنظير له من خلال محاولة المزج بين أجزاء “منتقاة” من الموروث الفقهي من جهة، ومقتضيات السياق الأوروبي الجديد وإكراهاته المفروضة على المسلمين المهاجرين من جهة أخرى.
ولمزيد من التوضيح، يمكن القول: إن المقال السابق خلص إلى أمرين:
- الأول: أن التنظير لمصطلح “فقه الأقليات المسلمة” كان هشا، لأنه انصرف إلى صياغات لفظية، ولم يناقش المفهوم والرؤية المؤسسة لمصطلح “فقه الأقليات المسلمة”، وهي رؤية إشكالية تقوم على إثبات الخصوصية لجماعة أو جماعات مسلمة في سياق جغرافي وسياسي معين (أوروبي أساسا)، ولا تتسق مع الموروث الفقهي كما سأوضح.
- الثاني: أن المصطلح استند إلى رؤية أيديولوجية حركية اضطرتها ظروف الصراع مع الأنظمة العربية إلى العيش خارج “دار الإسلام”، فكانت بحاجة إلى مسوغ نظري لعيشها في “دار الكفر”، بما يتسق مع أيديولوجيتها السياسية المنادية بإقامة “الدولة الإسلامية” والمتبنية لفكرة أن الإسلام نظام شامل، خصوصا أن واقعها الأوروبي الجديد يضعها على الهامش ويفرض عليها تحديات كثيرة تخل بفكرة “شمولية الإسلام”.
ولأجل ما سبق، تمركز خطاب “فقه الأقليات المسلمة” -في معالجته لمسائله (أو فروعه)- حول 3 مسائل كبرى تحضر في خلفية النقاش ولا تناقش بشكل مباشر:
- مركزية السلطة والبعد السياسي (وهو ما يعبر عنه مصطلح “الأقليات” الذي هو مصطلح سياسي في الغالب).
- مركزية الجغرافيا، وهي أوروبا خاصة، والغرب عامة (المصنف تاريخيا ضمن “دار الكفر”).
- مركزية الحفاظ على الهوية الإسلامية المهددة، وهي الفكرة التي قادت إلى الحديث عن “جماعة مسلمة” خارج دار الإسلام، والحفاظ على تدينها، وهو فرع عن أمرين: تصور أن الإسلام لا ينفصل عن فكرة الدولة والسلطة، وأن تشريعاته لا تقوم إلا في ظل وجود سلطة، وهو ما يهمش فكرة التدين الفردي لصالح فكرة تدين الجماعة ذات الهوية.
وتأسيسا على ما سبق، نناقش -في هذا المقال الثاني- الأساس المنهجي الذي قام عليه فقه الأقليات المسلمة.
في التأسيس النظري لهذا الفقه الخاص، تحدث منظرو فقه الأقليات المسلمة -إلى جانب تسويغ المصطلح- عن مسألتين:
- الأولى: مصادر فقه الأقليات وعلاقته بالفقه العام.
- الثانية: تأصيل أصول فقه خاصة بالأقليات المسلمة.
فالحديث عن مصادر وأصول مستقلة لهذا الفقه (أو متميزة في أدنى الأحوال) يكاد يشكل ثابتا من ثوابت الكتابة فيه والتنظير له، وهو ما قد يشكل مع إلحاح هؤلاء على أن هذا الفقه الخاص هو “جزء من الفقه العام”، لأن كونه جزءا من الفقه العام يغني -في حقيقة الأمر- عن الحديث عن مصادره وتأصيل أصول له.
لا تخرج مصادر “فقه الأقليات المسلمة” الخاص عن مصادر الفقه العام، وليس له من خصوصية سوى أنه يقوم على “انتقاء” ما يرى صالحا للسياق الأوروبي، أو التركيز على أجزاء من الفقه العام تبدو أوفق للأقليات، وهو استكمال لما سمي “الاجتهاد الانتقائي”
فيما يخص المسألة الأولى -وهي مصادر هذا الفقه الخاص- يمكن أن نميز بين توجهين:
- الأول: يتجاوز الموروث الفقهي ويتعامل مع النصوص المباشرة، ويمثله طه جابر العلواني -رحمه الله تعالى- الذي رأى أن “مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد ينطلق من كليات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم، ويستنير بما صح من سنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيقاته للقرآن وقيمه وكلياته”.
من الواضح أن هذا التوجه يرى أن الواقع الأوروبي الجديد الذي تعيش فيه هذه الأقليات يقطع مع الموروث الفقهي الذي غدا تاريخيا، بل إن الصحيح من السنة والسيرة النبوية هو محل للاستئناس فقط وليس مصدرا، لأنه ينطوي -فيما يبدو لديه- على أبعاد تاريخية وخاصة تحول دون استنساخها في هذا السياق الجديد، ولهذا ألح على فكرة الاستناد إلى كليات القرآن ومقاصد الشريعة، ولكنه لم يوضح لنا كيف سنستنبط هذه الكليات أولا، وما آليات استخراج الأحكام للوقائع الجديدة من تلك الكليات التي قد تختلف في تطبيقاتها الأنظار.
- الثاني: يوسع دائرة مصادر فقه الأقليات المسلمة، ويتكئ على الموروث الفقهي ولكن بأشكال متفاوتة. فالشيخ عبد الله بن بيه يرى أن فقه الأقليات لا يخرج -كسائر فروع الفقه- عن الكتاب والسنة، ولكنه من حيث التفصيل يرجع إلى:
- كليات الشريعة، كرفع الحرج، وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، ودرء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين وأضعف الشرين (مما يسميه البعض فقه الموازنات)، والمصالح المعتبرة والمرسلة.
- نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.
- “أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سببا لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان”.
فنحن هنا -في الواقع- أمام 3 مصادر تفصيلية، الأولان فيها لا يحيلان إلى أية خصوصية للأقليات المسلمة، إذ إن كليات الشريعة ونصوصها الجزئية لا تختص بأقلية أو أكثرية، وإنما تشمل عموم الأفراد. أما الثالث منها فهو رأي لبعض الفقهاء على خلاف رأي الجمهور، ثم إن الاعتماد عليه يستلزم التسليم بفكرة تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام، وهو ما يقر به منظرو فقه الأقليات المسلمة الذين تجاوزوا (أو بعضهم على الأقل) هذه القسمة.
في المقابل، يوضح الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- أن مصادر فقه الأقليات المسلمة “هي مصادر الفقه العام نفسها”، ولكنها بحاجة إلى “وقفات تجديدية”، ولكنه لا يوضح تفاصيل هذا التجديد المطلوب لخدمة قضايا الأقليات المسلمة.
أما الأستاذ عبد المجيد النجار فيؤكد مجددا أن “الجسم الأكبر لفقه الأقليات ينبني على ثمرات الفقه العام نفسها”، ولكنه يعتمد على “اجتهادات كانت مرجوحة أو غير مشهورة أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها وينشطها ويحييها لما يرى فيها من مناسبة لبعض أوضاع الأقلية المسلمة تتحقق بها المصلحة”، وأنه قد يستنبط من مقاصد الشرع قواعد اجتهادية جديدة.
مجددا لا تقدم هذه المصادر التي يحددها القرضاوي والنجار أي تأسيس نظري لهذا الفقه الجديد، كما أنها لا تفلح في إثبات أي خصوصية لهذا الفقه يتميز بها عن الفقه العام، إذ “الوقفات التجديدية” -بالنظر إلى عمل القرضاوي نفسه- يحتاجها الفقه العام كما يحتاجها فقه الأقليات المسلمة، وإحياء الآراء المهجورة أو المتروكة في الموروث الفقهي حصل في فتاوى القرضاوي وغيره بالنسبة للأكثريات المسلمة أيضا، فما الجديد هنا؟ وأين التأسيس النظري لمصادر هذا الفقه الخاص؟
لا تخرج إذن مصادر هذا الفقه الخاص عن مصادر الفقه العام، وليس له من خصوصية سوى أنه يقوم على “انتقاء” ما يرى صالحا للسياق الأوروبي، أو التركيز على أجزاء من الفقه العام تبدو أوفق للأقليات، وهو استكمال لما سمي “الاجتهاد الانتقائي” الذي يقوم -بحسب القرضاوي- على “اختيار أحد الآراء المنقولة في تراثنا الفقهي العريض للفتوى أو القضاء به، ترجيحا له على غيره من الآراء أو الأقوال الأخرى”، الأمر الذي يلغي مجددا خصوصية “فقه الأقليات المسلمة”، رغم إقرار منظري هذا الفقه بخصوصية وضع المسلمين في السياق الأوروبي، أي أن تنظيراتهم لا ترتقي أو لا تنسجم مع خصوصية السياق.
أما فيما يخص المسألة الثانية -وهي ما سمي “أصول فقه الأقليات المسلمة”- فقد طرحها كل من عبد المجيد النجار وطه جابر العلواني. وقد يتداخل الحديث عن “أصول فقه” للأقليات المسلمة مع الحديث عن “مصادر” لهذا الفقه كما سبق في المسألة السابقة، ولكن دعوى التأسيس لأصول فقه للأقليات هي خطاب متجاوز للحديث عن مصادر لهذا الفقه مستقاة من الفقه العام وقواعده الكلية، فقد كان من الطبيعي أن يقود الحديث عن خصوصية هذا الفقه إلى مثل هذه الدعوى، إذ التأصيل لفقه الأقليات -بحسب النجار- “فرع من فروع المنهج العام لأصول الفقه الذي يوجه النظر الفقهي، وقسم من أقسامه”، و”كل فقه يحتاج إلى أصول” بحسب العلواني.
مثل هذه الدعاوى تعيدنا -مجددا- إلى اصطلاح “فقه الأقليات المسلمة” وصلته بالفقه العام، إذ البحث عن أصول خاصة بهذا الفقه يعني استقلاله عن الفقه العام، خصوصا أن النجار يتحدث عن “تلافي النقص (الواقع) في مدونة أصول الفقه”، إذ إنها لا تستوعب احتياجات “الأقليات المسلمة”، وأن العلواني يتحدث عن الحاجة إلى “بناء أصول فقه” خاصة بالأقليات المسلمة ينتج عنها “فقه متكامل” يمكن أن يدرج ضمن “الفقه بالمعنى العام أو الفقه الأكبر” لا ضمن “فقه الفروع”، لأن فقه الأقليات المسلمة هو -بحسب العلواني- “فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة، وبالمكان الذي تعيش فيه”. وهذا الفقه الجديد يستلزم “تشغيل آليات الاجتهاد واستحضار بعض القواعد”.
تحيل مثل هذه الاقتراحات التي لا ترقى إلى التنظير الأصولي الذي ينتج فقها خاصا، إلى إشكالات عدة يمكن إجمالها فيما يلي:
- الإشكال الأول: أن أصول الفقه -في الاصطلاح- هي الأدلة التي تستنبط منها الأحكام الجزئية، أو هي العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه أو مسائله، أو هي مجموع طرق الفقه. وموضوع أصول الفقه -بحسب الإمام صفي الدين الأرموي (ت. 715هـ)- هو “أحوال الأدلة الموصولة إلى الأحكام الشرعية من حيث إنها أدلة، ومن حيث منطوقها ومفهومها وعمومها وخصوصها ومجملها ومبينها وغيرها من الأحوال العارضة للفظ، واختلاف مراتبها وأقسامها، وكيفية استثمار الأحكام منها على الوجه كله”.
وعليه فإن أصول الفقه لا تختلف بناء على معيار الأكثرية أو الأقلية بهذا المعنى، إذ معيار الأقلية والأكثرية يستند إلى مسائل السلطة والتمثيل السياسي، إذ يتحدث عن “جماعة سياسية”، بينما أصول الفقه علم باحث عن الأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام الشرعية التي خاطب الشارع بها عموم المكلفين على اختلاف أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم. فهو نظر منهجي عام يضبط عملية الاستنباط والوصول إلى حكم الشارع ومراده عبر تفسير النصوص والاستنباط منها، أو القياس عليها، أو طرائق الاستدلال في حالة غياب النص (ومن هنا نشأت المصادر غير النصية).
- الإشكال الثاني: لم تعن الكتابات في “فقه الأقليات” ببيان أوجه قصور الفقه العام وأصوله، ولماذا هو غير واف أو ملائم لمخاطبة أحوال المسلمين في الغرب على وجه الخصوص، كما لم تنشغل ببيان فوارق الأحكام بين حالتي الأكثرية والأقلية وكيف تؤثر تلك الأوصاف على خطاب الشارع نفسه أو على تنزيل أحكامه على وقائع الأعيان وخصوص الأحوال، وهي مسائل مركزية في خطاب “فقه الأقليات” كان حقها أن تشغل الأساس النظري، لإقناعنا بضرورة مثل هذا الفقه الخاص من الناحية المنهجية على الأقل. ولكن افترض النجار -مثلا- أن وجود فقه أقليات وفقه أكثريات أمر مسلم لا يحتاج إلى إثبات وبرهنة، حتى إنه بنى على تلك المسلمة نتيجة مفادها أن أصول الفقه قصر في “البيان المفصل فيما يتعلق بالأقليات المسلمة”، وأن “نظر الأصولي توجه إلى مجال من مجالات النظر مما أثر في نظره الأصولي فجاء حظ التأصيل لفقه الأقليات حظا ضعيفا في التراث الأصولي”.
- الإشكال الثالث: أن “نوعية” فقه الأقليات المزعومة تقوم على ادعاء “ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة، وبالمكان الذي تعيش فيه” بحسب العلواني، وهذا -حتى لو سلمنا به- لا يسوغ دعوى تأسيس أصول فقه جديدة، لأن اختصاص أصول الفقه في الأدلة الإجمالية ووجوه دلالتها على مراد الشارع (أي الأحكام) من المكلفين، ويخاطب الشخصيات الفردية في الغالب وفي الأحوال الطبيعية، لأنها هي الأصل، ومع ذلك فهو لا يهمل الأحوال الاستثنائية (كالضرورات والحاجات).أي أنه يخاطب أفعال المكلفين -أصالة- خطابا عاما بقطع النظر عن أمكنتهم وأزمنتهم، ليبقى تنزيل تلك الأحكام على الأشخاص مسألة اجتهادية داخلة في “تحقيق المناط” الذي هو 9 أعشار الفقه، وهذا يجعل من النقاش في مسائل “الأقليات المسلمة” نقاشا فقهيا لا أصوليا، ومندرجا ضمن مسائل الفقه العام، لأنه جزء من الصناعة الفقهية.
في ظني أن الإشكال الرئيس يتمثل في مسلمة “الخصوصية” المثبتة للأقليات المسلمة التي ناقشتها في مقال الأسبوع الماضي، أي “خصوصية الوضع” الذي تعيشه هذه الأقليات بالنسبة “لعموم الوضع الإسلامي”، وأنها لخصوصيتها تلك بحاجة إلى فقه جديد، والحديث عن فقه جديد يستلزم الحديث عن مصادر وأصول منهجية تفارق الفقه القديم أو تميزه عنه على الأقل. ولكن تنظيرات فقه الأقليات المسلمة تخفق في تقديم تنظير متماسك لهذا الفقه الخاص، فهو -في الواقع- لا يخرج عن الموروث الفقهي ومصادره.
أما أصول فقه المدعاة فلم ترق إلى التنظير الأصولي المنتج للأحكام وبقيت مجرد دعاوى، فلا نجد في هذا الفقه سوى التركيز على قاعدة الحاجات والضرورات، والقواعد الفقهية الكلية، وتغير الأحكام بتغير العرف والأحوال والزمان والمكان، والمصالح والمقاصد، وكلها قواعد تابعة للفقه العام تنطبق على الأقليات والأكثريات ولا يتعين فيها جغرافيا بعينها من حيث كونها قواعد، أما تطبيقاتها فتتنوع بتنوع أحوال المكلفين وأزمنتهم وأمكنتهم. وربما حملت بعض الفتاوى الخاصة بالأقليات المسلمة على مثل هذا النوع من التفكير في تأسيس فقه جديد، لمواجهة الاتهام بالتساهل ونحوه، لأنها خالفت المعروف أو السائد لدى المتفقهة.
في الواقع يمكن رد ما سمي “فقه الأقليات المسلمة” إلى أصلين:
- الأول: تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وأثر اختلاف الدور على بعض الأحكام الشرعية على رأي بعض الفقهاء.
- الثاني: إبراز حالات الاستثناء وقواعد الضرورة والحاجة في الفقه العام لتشكل أصلا من أصول هذا الفقه الخاص يستند إليه في بناء الأحكام الخاصة بـ”الجماعة المسلمة” المفترضة في السياق الأوروبي.
وقد ركب فقهاء الحركة الإسلامية من هذين الأصلين أطروحة “فقه الأقليات” مع إجراء بعض التعديلات وانتقاء أجزاء من هنا وهناك، لبناء أطروحة تلبي حاجات الوجود الإسلامي في الغرب من جهة، وتستقيم مع التصورات العامة للخطاب الإسلامي المعاصر حول مسائل تطبيق الشريعة والنظام الإسلامي الشامل من جهة أخرى، ولتوضيح هذا لا بد من إيجاز القول في قسمة العالم التي شغلت مبحثا مهما لدى الفقهاء السابقين، وتفرع عليها جملة فروع فقهية بعضها يتعلق بما يسمى اليوم “العلاقات الدولية” وهي من مباحث “الإمامة” (كمسائل الجهاد وعلاقات السلم والحرب)، وبعضها يتصل بالأحكام الفردية (كحكم إقامة المسلم في دار الكفر). ويقع الخلاف هنا بين الفقهاء في مسألتين رئيستين:
- الأولى: المعيار الذي على أساسه تكتسب الدار صفتها، أي كونها دار إسلام أو دار كفر، هل يكون ذلك بحسب السلطة أو بحسب السكان أو بحسب الأحكام التي تجري في الدار؟
- الثانية: حكم الإقامة في دار الكفر أو دخولها للتجارة وغيرها، وحمل المصحف إليها وغير ذلك من المسائل الفقهية الفرعية.
انبنى على هذا التقسيم في الفقه الإسلامي العام مسألتان: أولاهما وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، والثانية الجهاد، فأرض الكفر محل للجهاد والغزو وغير ذلك. وبناء على هذا التقسيم أيضا اختلف الفقهاء: هل تختلف الأحكام باختلاف الدار أو لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها لا تختلف، فالدنيا كلها دار واحدة من حيث ثبوت الأحكام فيها، وذهب الحنفية إلى أن الدنيا كلها داران: دار إسلام ودار حرب، فيما يتوقف تنفيذه على القضاء فقط، أي على وجود سلطة تقوم على تنفيذه، ولكن الاتفاق واقع على أن التكاليف الشرعية إنما تتعلق بالمسلم دون اعتبار تأثر بالأمكنة والأزمنة من حيث الأصل العام.
من الواضح أن هذين الأصلين اللذين بني عليهما فقه الأقليات المسلمة هما جزء من الفقه العام ولكن جرى استثمارهما في سياق جديد، في محاولة لاستلهام الفقه الموروث من جهة، رغبة في التكيف والتلاؤم مع السياق الأوروبي الجديد، ولكن ذلك أوقع في بعض التناقضات نتيجة هذه العملية الانتقائية أو التلفيقية، فكيف يمكن أن نبني على التقسيم الفقهي للعالم وآثاره ولا نسلم بصحة التقسيم في الوقت نفسه؟
فمن يقول: إن تقسيم العالم هو تقسيم تاريخي لم يعد واقعا أو صالحا لا يمكن له أن يستثمره لبناء نوع خاص من الفقه، كما لا يمكن عزل جزء من الفقه عن المنظومة المؤسسة له والمؤسسة عليه، وشبكة المفاهيم المحيطة به أو الأصول والفروع والقواعد بلغة الفقهاء، كما في تقسيم العالم هنا ومسائل الهجرة والجهاد والإمام والسلطة وغيرها التي استعادتها جماعات العنف حين أسقطتها على الدولة القومية في العالم العربي ونتج عن ذلك تكفير الأنظمة والمجتمعات معا.
يمكن لنا تفهم الدوافع الدعوية المساقة في إطار ما سمي “فقه الأقليات” من حفظ الحياة الدينية وضرورة تقوية الوجود الإسلامي في الغرب وغير ذلك، ولكن هذا التقويم النقدي الذي نقدمه هنا يتناول ذلك “التنظير” لفقه الأقليات المسلمة لبيان قصوره وإشكالاته، ذلك أن الجهد التنظيري الذي قدم لفقه الأقليات هش، ولم يقف عند حدود الوظيفة الدعوية بل تعداها إلى علمي الفقه وأصول الفقه، بل إن العلواني ربط “فقه الأقليات” بـ”الفقه الأكبر”.
وهذا لا يعني إنكار أهمية القيام بحق الصنعة الفقهية العملية التي توجب على أهل الفقه إعمال العقل الفقهي للإجابة على أسئلة أزمنتهم باختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة، إذ لا شك أن للمكان والسياق الحديث المركب أثره في توليد الأسئلة والإشكالات التي تنسجم مع درجة حداثته وتعقيده، الأمر الذي يوجب التعامل معه بجدية وبأهلية تامة بعيدا عن الدوافع الأيديولوجية والحركية. والله أعلم.