ذكرنا في مقالنا السابق ما يمكن أن نعدّه مدخلا لعلم اجتماع الفتوى، وهو باب لم يكتب فيه من حيث التأصيل والتقعيد حتى الآن للأسف، واعتبرنا ما أصدره العلماء من كتب في الفتاوى مدخلا مهما لذلك، وبخاصة التي صدرت من العلماء الذين كان لهم اشتغال بالعلوم الإنسانية، سواء من حيث العمل العلمي، أو من حيث التحصيل العلمي، واستصحاب هذه العلوم في العمل الإفتائي.
كنا قد ذكرنا فئة من هؤلاء، سواء ممن صدرت لهم كتب فتاوى، أو كتب فقهية، جمعت بين الفقه والعلوم التي حصلوها من العلوم الإنسانية، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والقانون، والاقتصاد، وغيرها من العلوم. فممن صدرت لهم كتب فتاوى وكان لهم اشتغال بالعلوم الإنسانية الدكتور محمد البهي.
سافر البهي ليلتحق بجامعة برلين، ولم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة الألمانية، حتى وصوله إليها، فالتحق بمعهد تعليم اللغة الألمانية للأجانب، لمدة 8 أشهر، ثم انتقل إلى مدينة هامبورغ للحصول على الدكتوراه التي حصل عليها بدرجة ممتاز.
البهي والجمع بين العلوم الشرعية والإنسانية
محمد البهي شخصية أزهرية فريدة، من حيث همته، ورباطة جأشه في البحث العلمي الرصين، وفي جمعه بين لغة عربية فصيحة أصيلة في الكتابة، ولغات أجنبية، يتقنها كما ينطقها أهلها، يترجم عنها ومنها، بل يدرس ويكتب، ويحصل على درجة الدكتوراه بها، وهي درجة في الإتقان لا يرقى إليها كثيرون.
محمد البهي تلقى تعليمه في الأزهر، وكان ترتيبه الأول في مراحل تعليمه الأزهرية، والتحق بقسم التخصص في شعبة البلاغة، وفي السنة الثالثة أتيحت له فرصة السفر إلى أوروبا للدراسة، فقد أعلنت مديرية محافظة البحيرة، تخليدا لذكرى الإمام محمد عبده إيفاد بعثة علمية إلى أوروبا مكونة من اثنين من أبناء البحيرة، الحاصلين على شهادة العالمية، ويطلق على هذه البعثة “بعثة تخليد ذكرى الأستاذ الإمام المرحوم محمد عبده”، ووقع الاختيار على اثنين، هما: الشيخ محمد عبد الله ماضي، ليدرس التاريخ العام وبخاصة الإسلامي، والشيخ محمد البهي، لمجموعة الفلسفة والمنطق وعلم النفس لدراستها.
سافر البهي ليلتحق بجامعة برلين، ولم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة الألمانية، حتى وصوله إليها، فالتحق بمعهد تعليم اللغة الألمانية للأجانب، لمدة 8 أشهر، ثم انتقل إلى مدينة هامبورغ للحصول على الدكتوراه التي حصل عليها بدرجة ممتاز، وكان موضوعها “الشيخ محمد عبده والتربية القومية في مصر”، ولتفوق البهي نصحه أستاذه (نواف Noaf) بجامعة هامبورغ أن يستكمل دراسته حتى يحصل على شهادة إجازة التدريس العالي التي تخوّل لحامليها حق التدريس في الجامعات والحصول على لقب “أستاذ”، وهو ما حدث بالفعل، حسب ما ذكر البهي في مذكراته المعنونة بـ”حياتي في رحاب الأزهر، طالب وأستاذ ووزير”.
عاد البهي بعد حصوله على الدرجات العلمية العالية والمتفوقة، ليعمل مدرسا للفلسفة وعلم النفس في كلية أصول الدين، ثم كلية اللغة العربية التي كان بها قسم منفصل للدراسات الفلسفية، وعُيّن مديرا لجامعة الأزهر، ثم وزيرا للأوقاف، وله عدد من المؤلفات المهمة في الفكر الإسلامي، ركز اهتمامه فيها على دراسة الجانب الفلسفي في العقيدة الإسلامية، والنظام الإسلامي، من حيث جوانبه الاجتماعية، والسياسية، والمالية، ونظام الحكم والدولة، منطلقا من دراسته الفلسفية التي أتقن بها دراسة المذاهب الفكرية المعاصرة المختلفة، والاطلاع على الفكر الأوروبي.
فتاوى محمد البهي
صدرت فتاوى محمد البهي بعنوان “رأي الدين بين السائل والمجيب”، في 4 أجزاء ما بين المتوسطة، والكبيرة، وبلغ عدد فتاواه 469 فتوى، تنوعت بين مجالات الأسئلة المتعلقة بالعقيدة، وقد أطلق عليها البهي اسم “في دائرة الألوهية”، وبين أقسام أخرى مثل العلاقات الاجتماعية والأسرية.
الفتاوى التي أصدرها محمد البهي لم تنشر كشأن بقية فتاوى معاصريه، ممن اشتهر عنهم الإفتاء، كالشيخ محمود شلتوت، وقد نشرت فتاواه في الصحف والمجلات، ثم جمعت في كتاب، أو فتاوى حسنين مخلوف، أو من أتوا بعدهم، كانت فتاواهم تصل إليهم في أسئلة، ويجاب عنها، وتنشر، ثم تجمع، لكن فتاوى البهي ليست من هذا النوع، فكلها كانت رسائل خاصة تصل إلى المؤلف، ويجيب أيضا عنها في سرية تامة بينه والسائل، ثم بعد أن تجمّع لديه عدد هائل من الأسئلة والأجوبة يشجعه على نشرها، قام بنشرها مع إخفاء تفاصيل السائل.
تشريح اجتماعي لظواهر المجتمع المصري
البعد الاجتماعي لفتاواه كان واضحا في مخيلة ورأس البهي عند الكتابة، بل نصّ على ذلك، ولفت نظر الباحثين إلى هذه المسألة، ففي مقدمة الطبعة الثانية من الجزء الأول من كتابه -مبررا عدم جمع الأجزاء الأربعة معا حتى يضمها فهرس موضوعي موحد، بل جعلها 4 أجزاء منفصلة- قال إنه أراد بذلك لفت نظر الباحثين الاجتماعيين، في علم الاجتماع الديني، إلى بعض الظواهر التي تعرضت للتغيير، وبالأخص التقاليد.. والصلة بين أفراد المجتمع والإسلام، كدين للمجتمع نفسه.
تميزت فتاوى البهي بأنها متوسطة الحجم من حيث عدد صفحات الفتوى، فليست بالقصيرة قصرا مخلا، ولا الطويلة طولا مملا، وأسئلتها لم تكن أسئلة افتراضية نادرة الحدوث، أو مسائل تراثية بحتة قديمة لا صلة للواقع بها.
بيّن البهي أن القارئ للجزء الأول والثاني سيجد فرقا في أسئلة الناس ينبئ عن بقاء التمسك بالتقاليد، بينما بعض أسئلة أخرى فيها تنمّ عن بعد الدين عن محيط التفكير للشباب، وعن الخلط بين التقاليد القائمة عليه والتقاليد الأخرى المستوحاة من المجتمعات الإسلامية، وترددها وسائل الإعلام المختلفة في مجتمعاتنا الإسلامية، وبخاصة التلفزيون.
قسّم البهي محاور أسئلة الناس، وصنّف نوعا من الأسئلة أطلق عليه “الفلسفة السياسية”، وذكر لها نماذج من الفتاوى، مثل: ما الصهيونية؟ أدين هي أم مذهب سياسي؟ وما التقدمية الماركسية؟ وتقدمية العلم والصناعة؟ وما الصراع الطبقي؟ ولماذا يكثر نشر كتب الإلحاد والطعن في الأديان؟ وما موقف الإسلام من المال؟ أهو اشتراكي؟ أم رأسمالي أم غير هذا وذاك؟ يقول: “ومثل هذه الأسئلة تعطي الباحث الاجتماعي للمجتمع المصري المعاصر أن القارئ المصري أصبح لا يقيم اتجاها واحدا في الفكر السياسي والاجتماعي، أو على الأقل لا يقصر قراءته على هذا الاتجاه الواحد، أو هو في قراءته لها يواجه بعض المشاكل التي تختلف اختلافا جذريا مع مبادئ الإسلام”.
استنتج محمد البهي من أسئلة الناس التي وصلته فيما يتعلق بالعلاقة بين الآباء والأبناء، ومدى الجرأة في مواجهة الوالدين في قضايا لم تكن موجودة من قبل، إلا في حدود ضيقة، بأن القارئ سيدرك مدى تطور المجتمع، وسيخلص إلى نتيجة واحدة هي أن الشباب قلّ تمسكهم بالإسلام اليوم إلى درجة كبيرة، وأصبحوا يقلدون الغرب أكثر من أن يتبعوا تعاليم الإسلام، ولعل برامج الإذاعة والتلفزيون من أقوى العوامل التي تحملهم على التحلل، والاختلاط، والخلط بين الإسلام من جانب وما يضعه الآخرون من جانب آخر.
مميزات فتاوى البهي
امتازت فتاوى محمد البهي بميزات عدة، منها:
- أنها سهلة ميسورة في لغتها وعباراتها، فهي سلسلة العبارة وسلسلة التناول، لا تجد فيها مصطلحات وعرة يعسر على القارئ فهمها، أو تخاطب المختصين دون متوسطي الثقافة، أو العامة من القراء.
- امتازت بأنها فتاوى ليست جافة في فقراتها وصياغتها، فكثير من كتب الفتاوى تعنى كثيرا بالنقل عن كتب التراث، وتنقل القارئ من نقل إلى آخر، مما يجعلها لا تناسب كل القراء، بل تخاطب فئة محددة منها، وهي فئة القارئ المتخصص بالتراث الفقهي، فرغم علمية فتاوى البهي فإنها لم تغرق في النقول التراثية التي يعسر على القارئ استيعابها، بل أحيانا ينقل فحوى الكلام، بما يمكّن القارئ من الفهم.
- امتازت بأن كل أسئلتها معاصرة، من حيث الأسئلة، فلم تكن أسئلتها افتراضية نادرة الحدوث، أو مسائل تراثية بحتة قديمة لا صلة للواقع بها، وكذلك امتازت بالمعاصرة من حيث الإجابة، الخبيرة بالمجتمع وأدوائه.
- متوسطة الحجم؛ من حيث عدد صفحات الفتوى، فليست بالقصيرة قصرا مخلا، ولا الطويلة طولا مملا، فبعض الفتاوى المعاصرة -للأسف- تجيب عن السؤال بيجوز، أو يحرم، في أسطر قليلة لا تشفي غليلا، ولا تقنع حائرا، وبعضها يسهب في النقول، ويطيل طولا يجعل القارئ يتيه ويشرد، وهو ما تجنبه البهي في فتاواه، فقد كان مركزا في عباراته، وإجاباته، وأدلته.
- لم تخل من التأصيل من القرآن والسنة، وهو ما أكثر منه البهي، حيث إن استمداده في كل الفتاوى كان يعتمد بالأساس على النصوص القرآنية، وفهمه لها، وربط هذا الفهم بالسؤال، وكذلك النصوص النبوية. ولم تخل من التعرض لبعض الأقوال الفقهية، وذلك يدل دلالة قوية على سعة اطلاع البهي، وبخاصة التراث الفقهي.
- امتازت فتاواه كذلك بارتباطها بالعلوم الإنسانية، فهي مربوطة ربطا دائما لا تخلو منه فتوى بالواقع الاجتماعي وحل مشكلاته، والوقوف على أمراض المجتمع ذات العلاقة بالدين. فبالنظر إلى الأسئلة التي قدمت للبهي للإجابة عنها، سنجدها كما عبر البهي نفسه بقوله: “كافية أن تشير في غير خفاء إلى: نوعية المشاكل في المستوى العام بين الأفراد، ونوعية المرض الاجتماعي الذي يكمن في توجيه المجتمعات الإسلامية، ونوعية النهاية التي سينتهي إليها هذا المرض من التفكك”.
أما النماذج التي تدل على أثر العلوم الإنسانية التي درسها البهي في فتاواه، وهل استند في بعض الفتاوى من حيث المنع أو الإجازة إلى هذه العلوم، وأثرها في الفتوى لديه، فهو ما نتناوله في مقال مستقل إن شاء الله.