يقول الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا: “إن النضال ضد الحماقة الفكرية أصعب من النضال ضد محتل غاصب”، وأتفق معه وأرى أن النضال ضد من يخربون الذوق العام يحتاج وعيا وعزيمة لا تفتر لإزالة ما يرسخونه في الوجدان من شوائب تستهدف جهازه المناعي، فلا يعود قادرا أو راغبا في تمييز التشوهات.
في ستينيات القرن الماضي، زار الكاتب الراحل عبد الوهاب مطاوع القاهرة لأول مرة قادما من قريته في محافظة كفر الشيخ بشمال مصر، وفاجأه أن لم يجد في البيوت التي دخلها ذلك “البار” المخصص لتقديم الخمور، الذي كان سمة في معظم الأعمال السينمائية حتى ظن كثيرون -وهو منهم- أنه الحقيقة السائدة.
هذا نموذج واحد للدور الذي تلعبه الدراما في تشكيل التصورات والأفكار الخاطئة بل والمدمرة أحيانا، فكثير من صناع الدراما العربية يتعمدون الإكثار من عناصر الإثارة والإبهار لجذب المشاهدين عبر مخاطبة الغرائز باعتبارها الطريقة الأسهل لضمان النجاح والأرباح، وهم في ذلك كمن يكثر من التوابل ومكسبات الطعم الصناعية نفاذة الرائحة لجذب المشتري لمنتج رديء المكونات، عظيم الخطر، يصيب آكله بالغثيان، ولا يكاد يحمل من المكونات النافعة ما يبرر دفع الكثير من الأموال فيه.
وهكذا نحن أمام طوفان من المبالغات الفجة والصراخ والعري وحكايات لا يصدقها عقل طفل عن الانتقام والغل الفج، وجميع أشكال القبح اللفظي والبصري والخلقي، وبدلا من أن تصبح رحلة المشاهد إلى تلك الوسائل طلبا للراحة والترفيه عن عقل مكدود يجد نفسه إزاء هذا السيل من القبح الذي ينال من ذوقه الشخصي وأخلاقه ولو بعد حين، فتقبل نفسه ما كانت ترفضه فطرته النقية.
حكاية “مهنتين”
“الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا تُقبل شهادته”.. هكذا كان القضاء المصري قديما يتعامل مع من يمتهنون صنعة “التشخيص” (التمثيل)، وقد استمر في رفض شهادتهم حتى الخمسينيات من القرن الماضي، والواقع أن المجتمع كله كان ينظر إلى المهنة وأصحابها بدونية، ويستخدم كلمة “مشخصاتي” (الممثل) للتقليل من شأن ممتهنيها.
وقد دخل التمثيل المسرحي مصر عام 1833 من خلال “مهرجين” كانوا يقدمون فقرات للترفيه في المناسبات لدى الأسر الغنية، ولكن على مرّ عقود بعد ذلك بذل بعض رواد تلك المهنة جهودا مميزة لتحسين النظرة إليها، ولتلعب دورا يحترمه الناس.
مهنة أخرى من العصر ذاته لم تكن محل تقدير اجتماعي هي “الأمشجي”، وهو ذلك الرجل الذي كان يسبق مواكب الأثرياء وكبار المسؤولين ليفسح لهم الطريق هاتفا في الناس “وسع يا جدع” (أفسح الطريق)، والمفارقة أن هذه الوظيفة التي ينظر إليها المجتمع بدونية كانت من لوازم الأبهة والتفخيم التي يلجأ إليها الأثرياء ليشعروا المارة في الطرقات بأهميتهم.
انقرضت مهنة “الأمشجي” واختفت من الشوارع والطرقات، لكنها ظهرت بأشكال أخرى في فضاءات بديلة، هناك من يقوم بهذا الدور لنفسه وبنفسه فنكاد نسمعه يقول “وسع يا جدع” كلما ظهر في فضائية أو نشر شيئًا على منصات التواصل الاجتماعي، وكأنه سيأتي بما لم يأت به من سبقوه منذ بدء الخليقة، ومع الإلحاح “والزن” (التكرار) يجد من يتطوعون للعب دور “الأمشجي” له مجانا وبحماس زائد، وصدق المثل الشعبي “الزنّ على الودان أمرّ من السحر” (التكرار أشد تأثيرا على الأذنين من السحر).
نحن إزاء سيل من القيم والنماذج والأفكار المريضة والغريبة تحفل بها أعمال درامية، وبرامج تلفزيونية، ومنشورات في الشبكات الاجتماعية، وهي محمية جميعها بهؤلاء “الأمشجية” الذين يضفون عليها هالات المهابة، ويرهبون من يحاول نقدها من الجماهير.
نحتاج أن نلزم هؤلاء ببعض التواضع، فقد عاشت الإنسانية عصورا طويلة وتطورت وتنورت دون وجودهم، وهي قادرة على مواصلة التطور والحياة لو اختفوا من الوجود
هذا عصر يتصدر فيه كثير من أنصاف المواهب ومحدودي القدرات المشهد الفني والويل لمن “يتطاول” فينقد عملا من أعمالهم أو ذواتهم “المقدسة”. يتحول هذا الناقد مباشرة إلى ظلامي معاد للفن والثقافة والتقدم، وهو لا يقدر من “يضحون بحياتهم لإسعاد الناس”، وكأن أحدا طلب منهم التضحية أو تظاهر عند اعتزال أي منهم، وكأنهم لا يتقاضون تلك الأموال الغزيرة في مقابل التضحيات المزعومة.
بعض هؤلاء يتقمصون حاليا أدوار قادة الرأي، ويمطروننا بمزاعم عن دورهم في “رفع وعي الجماهير”، ثم تراجع ما قدموه في شبابهم فلا ترى إلا ابتذالا محضا لا يحاول التخفي.
هذا السيل من الغثاء هو تهديد كبير لقيمنا وأفكارنا ووجداننا وذوقنا، والاستسلام له يعني فقدان الأمل في المستقبل، فهل نقبل بالتردي المتواصل والمتنامي؟ أم نصارعه لنصنع لأنفسنا مكانا ومكانة تليق بنا؟
فلندفعهم إلى بعض التواضع
وفي هذا السياق، فإذا كنا لا نسير على درب السابقين فننظر إلى مهنة “التشخيص/التمثيل” بدونية، فإننا في المقابل نحتاج أن نلزم هؤلاء ببعض التواضع، فقد عاشت الإنسانية عصورا طويلة وتطورت وتنورت دون أن تعرف تلك الصناعة، وهي قادرة على مواصلة التطور والحياة لو اختفت من الوجود، وعلى أحدهم أيضا ألا يتلبس شخصية الأستاذ الذي يلقن مشاهديه الدروس، فإن كان فيما يقدم إبداعا فليتذكر أنه إبداع جماعي كتبه له مؤلف، ووجهه في أدائه مخرج، وأن هذا المشاهد الذي يتعالى عليه ويعنفه هو الذي صنعه وهو الذي يمكن أن يسقطه إذا ولاه ظهره.
نحن مسؤولون عن حماية ذوقنا ووعينا وقيمنا، ووسيلتنا في ذلك ما قاله الإمام علي كرم الله وجهه: “لا تحضر في مجلسك من لا يشبهك”، فلنحرص ألا نحضر ما لا يشبهنا من الدراما أو الأفكار أو متصدري المشهد حتى لا يتسلل إلينا -في غفلة منا- من يؤذي وعينا وذوقنا ورُقيّنا.
من أهداف الفن تقديم الجمال، ورسالته طرح قضايا المجتمع بطرق جذابة بهدف “تهذيب” الذوق العام لا تخريبه، وعرف أرسطو الدراما بأنها محاكاة لفعل إنسان، وقال سقراط إنها يجب أن تخدم الإنسان، ونتساءل أين هذا الإنسان فيما تغرقنا به معظم الأعمال الدرامية العربية؟ أين الإنسان من البلطجي المزواج المنتهك لمعايير المجتمع؟ وهل يوجد هذا النموذج بكثافة في مجتمعاتنا؟ والأهم هل نرغب في نشر هذا النموذج؟ وأين الإنسان من المرأة المتسلطة السوقية التي تنشر بذاءاتها على الجميع؟ ومن يريد إظهار المرأة العربية بهذا التدني؟ وأين في مجتمعاتنا الأم التي تبكي ليلًا نهارًا لأنها تضيق بدورها كأم؟ هل وظيفة الدراما تصوير النماذج الشاذة والمرفوضة اجتماعيا كأنها واقع سائد ويتولى الترويج لها؟ وماذا عن سيل الشتائم الذي يؤذي الذوق العام ويتسرب إليه تدريجيًا؟ إن لم نسارع بلفظ “مروجيه”.
يقول الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي: “الكلمة نور وبعض الكلمات قبور”، وكثير مما يُطلق عليه أصحابه اليوم “فنا” هي جيف تأخرنا عن وضعها في القبور فأصابتنا روائحها الكريهة وتسببت في تشويه الذوق وترويج التدني وتضييق الأفق، فالحياة لا تتسع أبدًا مع الابتذال والهمجية والبلطجة والإسفاف وأن تزعمها سادة “التشخيص” وروج لها “الأمشجية”.