تحظى الفتوى بعناية بحثية في الآونة الأخيرة، وخاصة من جهة علم السوسيولوجيا، وذلك من جهة دراسة فتاوى معينة، تتعلق بمفتين في مرحلة زمنية محددة، بغية فحص هذه الفتاوى، ومدى تأثير الواقع الاجتماعي والسياسي فيها، أو تأثير فتاواهم على المجتمع وجوانبه السياسية والاجتماعية والدينية.
وهو ما حفزني للكتابة من قبل عن علم اجتماع الفتوى والحاجة إليه، وقبله الحاجة لعلم اجتماع الفقه ذاته، ويمكن أن يُدرَّس علم اجتماع الفتوى من خلال دراسة فتاوى العلماء الذين كان لهم اشتغال بالعلوم الإنسانية، أو اطلاع واسع عليها، ومدى مزجهم واستفادتهم بهذه العلوم في دراساتهم الفقهية، وفتاواهم.
أقسام الفتوى:
يمكن تقسيم الفتوى إلى 3 أقسام:
أولا: الفتوى التشريعية
وهي التي صدرت من الشارع، إما بوحي من القرآن الكريم أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك جوابا لسؤال، أو لبيان نازلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت شرعا عاما، وهو ما ورد في شأنها معظم الأسئلة التي أجاب عنها القرآن الكريم، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الفتوى قد انقطع بانقطاع الوحي.
ثانيا: الفتوى الفقهية
هي ما يبوح بها فقيه من الفقهاء، من دون سؤال من أحد، وإنما عند تفريعه للفروع، أو افتراضه لمسألة معينة.
ثالثا: الفتوى الجزئية
تكون جوابا عن سؤال في واقعة معينة بتنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي. وأكثر ما يطلق لفظ الإفتاء على هذا النوع، وإن كان يطلق على الفتوى الفقهية أيضا.
الفتوى الجزئية تنقسم إلى نوعين:
- فتوى خاصة وهي التي تتعلق بأمر يخص إنسانا، أو مجموعة قليلة من الناس، كسؤال عن عمل فردي يقوم به الإنسان، أو عبادة فردية، أو سلوك يتعلق بالشخص وحده.
- والفتوى العامة هي التي تتعلق بعامة الناس، أو فئة كبيرة من الناس، حسب دائرة الفتوى.
تنقسم الفتوى من حيث الجهة التي تصدرها إلى:
- الفتوى الفردية: وهي التي تصدر عن فرد، يوجَه إليه السؤال، فيجيب عنه.
- الفتوى الجماعية: وهي “أن يوجه السؤال أو تعرض المسألة والقضية على لجنة، أو هيئة، أو مجمع، أو مؤسسة، أو ندوة، أو مؤتمر فقهي، وتتم دراستها والجواب عنها”. وقد عرفها أحد الباحثين بأنها: “الفتيا الصادرة باسم جماعة من المختصين بالشريعة، بعد تداولهم الرأي حولها”.
أقسام الإفتاء
كما تنقسم الفتوى إلى أقسام، كذلك ينقسم الإفتاء ذاته أو القائم بالفتوى كمؤسسة إلى أقسام، فهناك الإفتاء الرسمي، وتسميه باحثة بالإفتاء الوظيفي، وهناك الإفتاء الأهلي أو الشعبي.
أما الإفتاء الرسمي، فهو الإفتاء الذي يتبع الدولة أو السلطة، من حيث تبعية الإدارة والتنظيم الوظيفي، سواء كانت فتواه مستقلة عن النظام، أو تابعة له، حيث يتم التعيين أو العزل بناء على قرار السلطة.
وأما الإفتاء الشعبي، أو المستقل، فهو الجهة التي تفتي الناس بغير تكليف رسمي من السلطة، ولكنه بتكليف شرعي يستحقه بمؤهلاته في الفتوى، وبثقة الناس في فتواه.
وليس هناك تلازم بين كون المفتي رسميا أن يكون تابعا للسلطة، فقد يكون هناك عالم في منصب ولا يخرج عما تقوله السلطة، أو تطلبه منه. وقد يكون عالما مهتما بالإفتاء وليس في منصب رسمي، لكنه تابع للسلطة، يبحث عن رضاها في كل ما يصدر عنه، فهذا هو ما أُطلقَ عليه “فقيه السلطة”.
قد يكون في المنصب الرسمي لكنه لا يفتي ولا يقول إلا ما يوافق قناعته الفقهية، يسير وراء الدليل أينما ذهب اتبعه، وكذلك الفقيه الذي ليس في منصب رسمي، ويفتي في ما يتعلق بالأمة والمجتمع بما يتسق مع رأيه الفقهي، فهذا وسابقه هو فقيه الأمة، لا فقيه السلطة، وهذا ما رأيناه في أكثر من نموذج في المفتين، فنجد المفتي الرسمي وبجواره المفتي الشعبي، وكلاهما من فقهاء الأمة، كما في نموذج المهدي العباسي الحنفي، وهو المفتي الرسمي، ومعاصره محمد عليش المالكي، وهو مفتي المالكية وليس مفتيا رسميا. وهو ما كتب فيه أحد الباحثين رسالة لطيفة بعنوان “بين عالم الملة، وعالم الدولة”.
هناك بعض مشاريع لم تخرج للنور، كانت لكبار أهل العلوم الإنسانية والقانونية، منها عمل كان قد عمل عليه لفترة المستشار طارق البشري رحمه الله، حيث عكف على دراسة بعض الكتب الفقهية المهمة لبعض كبار الأئمة، وبخاصة ابن القيم في كتابيه “الطرق الحكمية”، و”إعلام الموقعين عن رب العالمين”
علاقة الفتوى بدراسة المجتمع
لكتب الفتوى أهمية كبيرة، من حيث قيامها كمرجع للجواب عن أسئلة الناس الفردية والجماعية، ومن حيث علاقتها بالشأن العام، خاصة الفتاوى العامة أو الجماعية التي تتعلق بالمجتمع والأمة.
وقد انتشرت كتب كثيرة للفتوى، قام بها فقهاء كبار مجتهدون، سواء باجتهادهم داخل المذهب، أو اجتهادهم العام، ويطلق عليها كتب الفتاوى، أو كتب النوازل، على حسب تسمية البلدان لها، فغالب أهل المشرق الإسلامي يطلقون عليها الفتاوى، وغالب أهل المغرب الإسلامي يطلقون على كتب الفتاوى كتب النوازل، وذلك تبعا لتسمية المذهب المالكي لها بذلك.
وتتمثل أهمية كتب الفتاوى والنوازل في ما يلي:
أولا: حيوية الفقه الإسلامي
تبين كتب الفتاوى مدى حيوية الفقه الإسلامي في علاج القضايا التي تجد على حياة الناس، وهو ما جعل أحد الفقهاء المعاصرين يصف الفتوى بأنها الفقه المتحرك، إشارة إلى أن الفقه ينقسم إلى قسمين: الفقه الثابت، وهو ما يدون في كتب الفقه المذهبي والمقارن. أما الفتوى فهي الفقه المتحرك، لأنها متجددة ومتغيرة، رغم اعتمادها على مصادر التشريع، لكن التنزيل على هذا الواقع الذي تتنزل فيه الفتوى، ودور الفقيه وعمله فيها، يمنحها الحيوية والتجدد.
ولأن كتب النوازل والفتاوى الفقهية هي عصارة 3 عناصر: “نص، وعقل، وواقع متجدد، ومن ثم فهي تختلف عن كتب الفقه التقليدي المستنبطة للأحكام من أصولها المعتمدة من دون أثر للواقع، أو تأثير للزمان، ومنضبطة للأبواب الفقهية المعتمدة في التأليف والمعهود في الترتيب”.
ثانيا: كتب الفتاوى والتوثيق التاريخي للمجتمع:
هذه الكتب هي سجلات ووثائق تاريخية تفيد الباحث في حالة الأمة من جميع نواحيها: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية، فهي تعطي صورة عن نمط الحياة في وقت الفتوى، من حيث حياة الناس كمستفتين، ونمط الحياة الفكرية من حيث جواب المفتي.
وهناك نقاش بين أهل التاريخ: هل تعد كتب الفتاوى والنوازل وثائق ومراجع للتاريخ أم لا؟ ورفض البعض اعتمادها كوثائق تاريخية، لأن بعض الأسئلة والأجوبة أحيانا تكون افتراضية، ورأيي: أنها تصلح كوثائق تاريخية، في الشق الحقيقي منها، المعبر عن الحالات التي تنطلق من أسئلة مجتمعية، ولو كانت تحمل سؤالا شخصيا.
كما أن الأسئلة الافتراضية في ذاتها تعد وثيقة ودليلا على مستوى تفكير الناس، ومستوى تفكير المفتين، من حيث تطلعاتهم، ومن حيث رؤاهم للمستقبل، وتبين مستوى التفكير في المجتمع آنذاك، وهو ما لا ينطبق على كل الفتاوى، بل على بعضها، في ما يعد في باب الفقه الافتراضي، أما بقية أسئلة الناس فهي بلا شك تنطلق من واقع حياتي يعيشه السائل والمفتي.
كانت فتوى ابن عرضون بأن المرأة التي تشارك جهد زوجها في العمل، فهي شريكة معه بقدر نسبة الشراكة، إن كان بالمال، أو بالجهد، وأنه عند وفاة الزوج -قبل توزيع التركة- يعطى للزوجة حقها في السعي مع الزوج، ثم توزع بقية التركة حسب الأنصبة الشرعية
ثالثا: عدم خلو أمتنا من وجود مجال عام
هذه الكتب تبين بوضوح عدم خلو أمتنا من مجال عام سواء مارست فيه حقوقها، سواء ضعف هذا المجال أو قوى، على حسب المرحلة والحالة التي تعيشها الأمة.
رابعا: كتب الفتاوى تسهم في تطوير وتجديد الفقه
تسهم كتب الفتاوى في تطوير وتجديد الفقه سواء من حيث أبوابه المعروفة، التي تصنف كتبه حسب تبويبه المعروف، وتدخل الفتاوى والنوازل الجديدة لتوضع في موضعها الفقهي، وبذلك تسهم في هذا التجديد، ومن هذه الأبواب ما يتعلق بالفقه السياسي بكل مكوناته وعناوينه، سواء من خلال كتب الفقه المذهبي، وكتب السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، وكتب أدب القضاء.
دراسات معاصرة عن الفتوى والمجتمع:
هناك وثبة في عالم البحث في الفتوى مؤخرا، بدا الاهتمام بها بشكل طيب، سواء في المغرب العربي، أو المشرق العربي، وإن كان المغرب العربي ينال القسط الأكبر إلى الآن، فرأينا رسالة الدكتور عمر بنميرة بعنوان “النوازل والمجتمع”، التي استطاع فيها الباحث دراسة تاريخ البادية في المغرب الوسيط، ورصد من خلالها الحالة الاقتصادية، بل حالة المياه والآبار، والموارد المتوافرة آنذاك.
وهناك دراسات أخرى عن ابن رشد وفتاواه، وفتاوى ابن عرضون عن الكد والسعاية، وهي تعبر عن رؤية مجتمعية تشابكت معه الرؤية الفقهية، إذ كانت فتوى ابن عرضون بأن المرأة التي تشارك جهد زوجها في العمل، فهي شريكة معه بقدر نسبة الشراكة، إن كان بالمال، أو بالجهد، وأنه عند وفاة الزوج -قبل توزيع التركة- يعطى للزوجة حقها في السعي مع الزوج، ثم توزع بقية التركة حسب الأنصبة الشرعية، وصعد إليه العلماء لنقاشه، فلما رأوا نساء البادية بالفعل يخرجن من الصباح الباكر للحقول مع الزوج للعمل، ولا يعدن إلا عند المساء، نزلوا على رأيه.
وفي مصر صدرت مؤخرا دراسة للدكتورة فاطمة حافظ، وهي رسالتها للدكتوراه، بعنوان “الفتوى والحداثة”، وقد حللت فيها فتاوى المفتي الرسمي الشيخ العباسي المهدي الحنفي، والشيخ محمد عليش المالكي، وناقشت في رسالتها علاقة فتاوى هذين الفقيهين بالمستجدات السياسية والاجتماعية في القطر المصري آنذاك.
وهناك رسالة لأحد الغربيين عن المفتين ودار الإفتاء، جعل عنوانها “إسلام الدولة المصرية”، لجاكوب سكو فجارد بيترسون، وهي رسالة ثرية بالنقاش والوثائق حول الإفتاء الرسمي والشعبي في مصر، وإن لم تخل من ملاحظات ومؤاخذات، شأن كل عمل بشري.
فتاوى المشتغلين بالعلوم الإنسانية
اهتم بعض الباحثين بمساحة مهمة في الدراسات الفقهية من حيث علاقة الفقهاء المعاصرين الذين جمعوا بين دراسة الفقه والقانون، أو الدراسات الإنسانية الأخرى، مثل الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، وغيرها. وصدرت دراسة مهمة عن “أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية” للدكتور محمد إبراهيم طاجن، وقد كتب لها مقدمة ضافية مهمة المستشار طارق البشري، بيّن فيها أهمية هذه النوعية من الدراسات، وأنها لبت رغبة وحاجة ملحة لديه منذ زمن لتناول هذه المساحة.
وإن كانت الدراسة قد اهتمت بالحديث عن جهود المدرسة، لكن هناك جانبا مهما أيضا لم يتم تناوله، وهو أثر دراسة هؤلاء الفقهاء للقانون والقضاء، في تناولهم للقضايا الفقهية وطريقة الكتابة، فقد مزج كثيرون منهم في كتابتهم بأن كتبوا كتابات فقهية عميقة بطريقة وتبويب أهل القانون، وهو ما يحتاج لإفراده بمساحة من الدراسات والبحوث.
هناك بعض المشاريع التي لم تخرج للنور، كانت لكبار أهل العلوم الإنسانية والقانونية، منها عمل كان قد عمل عليه لفترة المستشار طارق البشري رحمه الله، إذ عكف على دراسة بعض الكتب الفقهية المهمة لبعض كبار الأئمة، خاصة ابن القيم في كتابيه “الطرق الحكمية” و”إعلام الموقعين عن رب العالمين”، والحديث عن اختياراته فيها، ولماذا اختارها، بعقلية الحكيم البشري، وربطها بعقليته القانونية التاريخية.
وهو نفس ما عمل عليه لفترة الدكتور زكي نجيب محمود، وقد كان في أخريات حياته عكف على كتابة عمل عن عظمة الفقه الإسلامي، وجوانب هذه العظمة، من رؤية ونظر عالم كبير بالفلسفة، وربط ذلك بفلسفة التشريع، والفكر المعاصر، ولا ندري عن مصير هذه الأعمال شيئا.
فتاوى غفل عنها الباحثون
رغم الجهد المبذول في دراسة كتب الفتاوى القديمة والمعاصرة، فإن هناك مساحات لم ينتبه إليها كثير من الباحثين في سوسيولوجيا الفتوى، وهي لمفتين كانت لهم علاقة واشتغال بالعلوم الإنسانية، سواء من حيث التدريس، أو من حيث الاهتمام الدراسي والعلمي، وهم أعلام مشهورون، لكنه لم يشتهر عنهم الاشتغال بالفتوى، وعرف عنهم الاشتغال بالفكر الإسلامي والإنساني.
من أبرز هؤلاء الذين لهم فتاوى مدونة ومنشورة الإمام الأكبر الراحل الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله، وقد صدرت في جزأين كبيرين، عن دار المعارف، وكتب مقدمتها ابنه الدكتور منيع عبد الحليم محمود، ويبدو أنها لم تصدر في حياة الشيخ، وتناولت هذه الفتاوى معظم أبواب الفقه الإسلامي، وشؤون الحياة والسياسة.
وهناك فتاوى في 4 أجزاء للأستاذ الدكتور محمد البهي، وهو رجل جمع بين عدة أمور، فقد كان وزيرا، وكان مديرا لجامعة الأزهر، ونال درجة الدكتوراه من ألمانيا، وله اطلاع واسع على الفكر الغربي، مما يجعل لفتاواه -مثل فتاوى عبد الحليم محمود- أهمية في دراستها، وإلى أي مدى ربط بين العلوم الإنسانية والفتوى.
بعيدا عمن جمعوا فتاواهم في كتب مستقلة -ممن لهم اطلاع على العلوم الإنسانية- هناك من المفتين المصريين الرسميين أيضا من لهم فتاوى، مثل شيخ الأزهر ومفتي مصر الشيخ حسن مأمون، وهو خريج السوربون، وله عدد من الفتاوى المهمة المتعلقة بالمجتمع والسياسة الداخلية والدولية، وقضايا مجتمعية، وإن كانت في إطار أسئلة الناس الموجهة لدار الإفتاء المصرية، لكنها عند الوقوف عليها، والتدبر لما ورد فيها، سنجد معينا مهما في هذا المجال، من شخصية كالشيخ مأمون، جمع بين علوم الشرع، والعلوم الإنسانية، وهو ما يتجلى أثره في كثير من فتاواه التي جمع كثيرا منها في سلسلة دار الإفتاء المصرية: “الفتاوى الإسلامية”. وهو ما نتناوله في مقالاتنا القادمة إن شاء الله.