كانت تونس في 25 يوليو/تموز 2021 تستعد للاحتفال بذكرى الجمهورية، وتستذكر معها الذكرى الثانية لرحيل الرئيس الباجي قايد السبسي الذي توفي في 25 يوليو/تموز 2019، عندما أقدم الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد على تعليق العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان المنتخب، وحل الحكومة الحاصلة على ثقة البرلمان، وإعلان مجموعة من الإجراءات الاستثنائية، وأهم ما ورد فيها أنه وحده من يدير البلاد عبر المراسيم التي يصدرها.
مثلت الإجراءات الاستثنائية لـ25 يوليو/تموز 2021 لدى الكثير انقلابا حقيقيا، استعمل فيه الرئيس قوات الجيش الوطني لإغلاق البرلمان والسيطرة على قصر الحكومة، وفرض حالة الطوارئ في البلاد.
كان ملفتا يومها ردود أفعال جزء كبير من القوى السياسية والمنظمات التي رحبت بالانقلاب، بل واعتبرته فرصة تاريخية لتصحيح المسار وإنقاذ البلاد.
قوى رغم أنها كانت مؤثِثة للمشهد السياسي وفاعلة فيه، سواء من ناحية الحكم أو من المشاركة في المؤسسات المنتخبة منذ اليوم الأول للثورة طيلة 10 سنوات. وأكدت هذه القوى موقفها الداعم للانقلاب، عندما وضعت نفسها على ذمة الرئيس وفي خدمته، معبرة عن استعدادها للعمل معه تحت سقف الإجراءات الاستثنائية المعلنة وإدارة البلاد عبر المراسيم التي يصدرها.
كشفت التجربة التونسية في عملية التغيير والتحول الديمقراطي التي اتسمت بالاعتدال وروح التوافق والتشاركية عن أن معادلة الدمقرطة والترويض لدولة ما بعد الاستقلال عملية مستحيلة
طُرحت في خضم ذلك أسئلة كثيرة عن الجهات الحقيقية التي تقف وراء الانقلاب، أو لنقل عن المكونات الأساسية لمنظومة الانقلاب؛ فوجهت أصابع الاتهام لجهات داخلية وأخرى خارجية لعبت دورا حاسما في التمهيد للانقلاب ثم تنفيذه، بعد أن عملت على إشاعة أجواء مفتعلة من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وإجراءات مبيتة حجبت بمقتضاها وبشكل متعمد شحنات التلقيح ضد وباء كورونا، كما صاحبت ذلك حملة إعلامية مفتعلة ومغلوطة تزعم حصول وفيات كثيرة لأشخاص في أروقة المستشفيات، بل وحتى في الشارع بسبب عدم تلقيهم اللقاحات، وأشاع مسؤولون مقربون من منظومة الانقلاب خبرا مفبركا عن انهيار “المنظومة الصحية”، فبدا المشهد خارج السيطرة.
كان واضحا تماما أن ما حصل في 25 يوليو/تموز 2021 استكمال لمخطط إقليمي ودولي بعضه معلن والآخر خفي، للإجهاز التام على القلعة الأخيرة من قلاع ثورات الربيع العربي، ووقف مسار التحول الديمقراطي والتغيير في المنطقة.
قد يكون الدور على تونس تأخر سنوات معدودة، بسبب مناورة ومعاندة قوى الثورة، لاحتواء كل المساعي التي جرت من أجل تقويض المسار الديمقراطي الذي دشنته في تونس مع بداية 2011، بيد أن تونس في منتصف عام 2021، بإمكانياتها المحدودة وحجمها الإقليمي، لم تكن لتصمد أكثر أمام مسار تقويضي خططت له قوى الثورة المضادة، واستهدفت به بداية الحلقة الأقوى، وهي مصر، التي أطيح فيها سنة 2013 بنظام منتخب، وتعيد البلاد مجددا للمنظومة التقليدية التي حكمت البلاد منذ 1952.
يساعدنا النظر للمشهد التونسي ضمن أفق عربي أوسع -من دون التيه في التفاصيل- في فهم ما حصل قبل عامين في تونس. سياق عربي أُطلق خلاله مسار -منذ 10 سنوات أو يزيد- استهداف تجربة التغيير الوليدة، والإجهاز على عملية التحول الديمقراطي.
لقد بدت التجربة التونسية لوقت حالة استثنائية في بيئة إقليمية وعربية رافضة ومحاربة للتغيير. وفي اللحظة التي تقاطعت فيها الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها القوى السياسية التونسية بمسار الثورة المضادة المترصد، لم يكن بوسع التجربة التونسية الاستثنائية الشاردة الصمود أكثر، وسُدت واستنزفت سبل المناورة على المخطط والمؤامرة، وسيقت تونس لمصيرها عودا لنادي الدكتاتوريات، غير قادرة على معاندة دكتاتورية الجغرافيا، ولا مكر التاريخ.
لقد كشفت التجربة التونسية في عملية التغيير والتحول الديمقراطي التي اتسمت بالاعتدال وروح التوافق والتشاركية عن أن معادلة الدمقرطة والترويض لدولة ما بعد الاستقلال عملية مستحيلة.
وأن كل محاولة للاندراج في الدولة من أجل إعادة تأهيلها ديمقراطيا مهمة مستحيلة، وما يحصل هو العكس تماما؛ فقد بدت “الدولة” تدفع تباعا قوى الثورة والتغيير للتكيف والامتثال والخضوع، وأن تكون هي الفاعل، أما هم فلا يزيدون عن كونهم أدواتها الجديدة، البديلة عن القديمة التي استهلكت واستنفدت مهماتها. لقد بدت الدولة صلبة وعنيدة ومعاندة، حتى بدت كأنها تقف وجها لوجه في مواجهة الثورة.
كانت سنوات “التحول الديمقراطي” المغدور كافية لاكتشاف ديناميكية العلاقة بين الدولة والمجتمع، ممثلا في قواه المختلفة سياسية وغيرها. فمنذ اللحظة الأولى للثورة بدت الأمور للدولة تحت “السيطرة” وتدار توجهاتها الأساسية بمعقوليتها الصلبة وبيروقراطيتها العميقة.
كانت قوى الثورة القادمة من بعيد تعتقد أن الدولة في انتظارهم من أجل تجسيد الثورة وبسط قيمها وأهدافها، بينما كانت الدولة في انتظارهم لاحتواء الثورة وترويض الثائرين.
لقد كان واضحا خلال سنوات المسار الديمقراطي كيف بدت تونس حالة قلقة متوترة على الدوام، وكان المتطلعون للتغيير يشعرون باستمرار بأن هناك أمرا ما يستوجب القلق، ويصد المسار ويربكه، ولم يكونوا قادرين لا على تحديده ولا واثقين من كشفه.
كان هؤلاء يشعرون بأن هذه الدولة الجديدة المزدحمة بالثورة والثوار لا تعبر عنهم تماما، بل تبدو مولية وجهها شطر وجهة أخرى، معلومة لديها وحدها. ولم يكن يجدون ما يبررون به صمتهم وتسليمهم غير توقعاتهم الحائرة، بأن معقولية الدولة وحدها تقتضي حل ذلك الغموض.
يمكن القول إن الأمر في جوهره يُحيل إلى المحنة العربية المستحكمة، ممثلة في الدولة الوطنية الحديثة التي قامت في المجمل بعد الاستقلال، وتأسست على سلطة مرجعية من خارجها، لا تعبر في عمقها عن إرادة مواطنيها، بقدر ما تمثل إرادة أخرى.
بعد عامين من الانقلاب على الجمهورية، وعلى مسار ديمقراطي كان رغم عيوبه مسارا توافقيا استوعب كل القوى السياسية، ومكّنها من المساهمة بأقدار في عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد لمدة تزيد على 10 سنوات؛ تواجه تونس اليوم -كغيرها من البلدان العربية- تحديات إستراتيجية، تتجاوز مجرد توفير الحد الأدنى من ضمانات المواطنة، إلى معركة التأسيس الجديد.
منظومة الحكم الحالية، بما تتسم به من حكم فردي مطلق، وتقويض للمؤسسات المنتخبة، والدوس على القوانين وتسفيه القضاء والقضاة، والفشل الاقتصادي والاجتماعي الكبير، والتخبط الدبلوماسي غير المسبوق؛ كلها مجرد تعبيرات عن أزمة أعقد.
إن تونس تحتاج تأسيسا جديدا ليس لمجرد نظامها السياسي، وإنما أبعد من ذلك؛ فالأمر يتعلق بالدولة نفسها وشرعيتها، هذه الدولة “الغول” تورمت سطوتها، وتفاقمت أزمتها، واهترت بيروقراطيتها واستهلكت نفسها فتآكلت، شرعية ووظيفة، حتى بدت عاجزة عن حفظ الاجتماع السياسي، أو ضمان التعاقد الاجتماعي.
يكفي اليوم أن تجوب بناظرك حول المنطقة، فلا ترى جيوشا وطنية وإنما قوات شبه نظامية/مليشيات تسيطر على المشهد العسكري أو جزء منه، من العراق إلى لبنان وسوريا، فاليمن والسودان والصومال وليبيا، وهو وضع يحيل على نهاية منوال الدولة الوطنية العربية كضامنة للاجتماع السياسي وحارسة له.
تونس التي خاضت ثورة لافتة في 2010-2011 من أجل استعادة الجمهورية وإنعاش قيمها وإحياء مبادئها، وجدت نفسها بعد 10 سنوات أمام منعرج تاريخي أخطر وحالة سياسية هجينة، تنزع إلى تسييس أجهزة الدولة وتعبئتها لا من أجل تأمين تعاقد اجتماعي أو حماية الاجتماع السياسي، وإنما من أجل حراسة الحكم الفردي المطلق والتمكين له، على غير رؤية أو هدف أو مشروع.
يضع هذا الانحراف التاريخي الذي انتهي بالانقلاب على “جمهورية الاستقلال الأول” المجموعة الوطنية المؤمنة بالتغيير والإصلاح أمام مسؤولية تاريخية من أجل العمل على وقف هذا الانزلاق، لفسح المجال أمام نخبة سياسية وثقافية جديدة، لإعادة تأسيس على غير المنوال التقليدي للدولة والاجتماع السياسي، سبيلا لوضع تونس على طريق النهوض نموذجا جديدا متجددا للتغيير.