لم يقتصر تأثير سيد قطب على العالمين السني والعربي فقط، فقد تركت ثوريته أثرا كبيرا على الإسلام السياسي الشيعي أيضا، وخاصة الثورة الإسلامية الإيرانية كما سنوضح في هذا المقال والمقال اللاحق من هذه السلسلة. ففي هذا المقال أبين كيف شكلت ترجمة أعمال سيد إلى الفارسية عملا ثوريا ملأ الفراغ النظري القائم في الفكر الشيعي وخاصة الإيراني في مرحلة ما قبل الثورة، وسد حاجة كانت قائمة في سياق الإعداد للثورة الإسلامية الإيرانية.
أما المقال اللاحق فسأوضح فيه أشكال حضور سيد قطب في الفكر الإيراني المعاصر، بدءا بحقبة الثورة الإيرانية ممثلة في الخميني وخامنئي، وانتهاء بمرحلة الثورات العربية.
ترجع البداية إلى اللقاء الذي تم في مصر سنة 1953 بين مجتبى نواب صفوي (ت. 1956) من جهة، وسيد قطب وأعضاء من الإخوان المسلمين من جهة أخرى، ولعله يكون أقدم تواصل بين سيد قطب والفكر الثوري الإيراني الذي سيمهد -فيما يبدو- لانتقال فكر سيد إلى إيران لاحقا. ورغم الاختلاف ما بين الرجلين، فإنه لا يمكن تجاهل أوجه الشبه بينهما أيضا، سواء لجهة المزاج والتوجه أم لجهة النهايات، فقد أسس صفوي جمعية “فدائيان إسلام” (فدائيو الإسلام) في إيران عام 1946، وهي حركة إسلامية معارضة تتبنى التغيير الراديكالي بهدف إنشاء دولة إسلامية في إيران، وقد انتهى المطاف بصفوي إلى الإعدام رميا بالرصاص سنة 1956 من قبل نظام الشاه. في المقابل، ارتبط اسم سيد بما عُرف بتنظيم 1965 وأُعدم أيضا.
بل إننا يمكن أن نجد في كتابات سيد نظيرا لنص صفوي الآتي الذي يقول فيه: “إلى أعداء وناصبي الحكومة الإسلامية، الشاه والسائرين في ركابه: إذا لم تطبقوا الإسلام وقوانينه، فبعون الله سنحطمكم، ونشكل الحكومة الإسلامية الصالحة لتطبيق الإسلام في كل أنحاء البلاد”، وقد سبق نقل ما يشبهه من نصوص سيد في بعض ما ورد في مقالاتي السابقة.
يُحيل هذا التواصل المبكر بين الإسلاميين الثوريين من الطرفين (السني والشيعي) إلى اتساع النشاط الحركي الثوري ضد الأنظمة السياسية في ذلك الوقت، وبلورة صيغة “إسلام ثوري” متجاوز للحدود المذهبية، وساعٍ إلى التغيير السياسي لإقامة الدولة الإسلامية.
حظيت شخصية صفوي بتأثير بارز في جماعة الإخوان التي رفعت صوره، بحسب ما أخبرني الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله تعالى. ولكن فكر سيد سيحظى -فيما بعد- بحضور كثيف بدءا من ستينيات القرن الماضي وخلال الثورة الإسلامية الإيرانية. ويتضح أثر سيد في الفكر الإيراني الثوري المعاصر من خلال عدة أمور تشمل ترجمة أعماله إلى الفارسية، وإنشاء طابع بريدي خاص عليه صورته بعد الثورة، وتولي خامنئي وبعض قيادات الثورة ترجمة كتبه، واستمرار حضوره في الكتابات الإيرانية في سياقات مختلفة سأوضحها في المقال القادم.
بدأت ترجمة أعمال سيد إلى الفارسية في ستينيات القرن الماضي، وأُشيعت في إيران في أثناء الإعداد الثوري ضد نظام الشاه، وتولى هذه الترجمة شباب إسلاميون نشطوا ضد نظام الشاه، وقد تولى بعضهم -بعد نجاح الثورة- مواقع رفيعة في نظام الحكم الجديد.
كان من بين هؤلاء علي خامنئي (ولد 1939) الذي لم يبلغ الثلاثين من عمره حينها، وكان على صلة بالخميني ثم خلفه على منصب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية كما هو معروف، وقد ترجم خامنئي لسيد أكثر من كتاب كما سأبين في المقال القادم.
ومن بين المترجمين -أيضا- محمد حسيني خامنئي (ولد 1935) الشقيق الأكبر لعلي، وقد صار -فيما بعد- أحد واضعي دستور الجمهورية الإسلامية، وقد ترجم لسيد كتاب “خصائص التصور الإسلامي”. وكان من بين المترجمين -أيضا- أحمد آرام وهو من أكبر المترجمين الإيرانيين المعاصرين وأغزرهم إنتاجا، وهو أسن من سابقيه، فقد ولد عام 1902 وتوفي عام 1998، وترجم لسيد -مبكرا- أجزاء من “في ظلال القرآن”.
ومنهم أيضا هادي خسروشاهي (ولد 1938 وتوفي 2020) الذي ترجم مطلع الستينيات كتاب “العدالة الاجتماعية”، ثم كتاب “الإسلام والسلام العالمي”، ثم صار سفيرا لدى الفاتيكان ورئيسا لمكتب رعاية المصالح الإيرانية في مصر، وكان على صلة وثيقة بالإخوان المسلمين. ويبدو أن هذه الترجمات قد حظيت بشعبية ملحوظة قبل الثورة الإسلامية وبعدها، كما سيتضح -في المقال القادم- من خلال حضور سيد في المصادر الإيرانية المعاصرة.
بلغ تأثير سيد على الفكر الإيراني الثوري عموما مبلغا جعل بعض المؤلفين يخلص إلى القول: “في إيران لا يوجد شخص يقارب سيد قطب أو محمد إقبال من حيث التأثير”
لم تكن هذه الترجمات مجرد عمل تقني، خاصة إذا تأملنا سياق الترجمة وزمانها والقائمين عليها الذين لم يكن غالبهم من المحترفين للترجمة، فقد تمت في سياق شيعي إيراني وفي مطلع الستينيات مع بدء الإعداد للثورة وبناء جيل يقوم بها، ومن قبل جيل شاب معمم فاعل في الثورة وسيكون له دورٌ كبير في النظام الجديد بعد نجاحها.
فباستثناء أحمد آرام المترجم المحترف الذي ترجم نحو مئتي كتاب، من بينها كتب فلسفية وعلمية، كما ترجم “تجديد الفكر الديني” لمحمد إقبال، و”الله والإنسان في القرآن” لتوشيهيكو إيزوتسو، كان باقي مترجمي سيد المذكورين من المعممين الساعين إلى حكومة إسلامية يليها الولي الفقيه، ولبيان أن ترجمة سيد تجاوزت الوظيفة التقنية أو العمل الثقافي البحت، لا بد من توضيح 4 أمور:
- الأول: أن الطبعة الفارسية من سيد كانت أداة أو فعلا ثوريا وتثويريا ضد نظام الشاه، فقد ساهمت في نشر صورة الإسلام الشامل والثوري في الوقت نفسه، وهو ما يظهر -بوضوح- لدى خامنئي وغيره كما سيتضح في المقال القادم. بل إن الفكرة المركزية للمحاضرات التي ألقاها الخميني على طلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف سنة 1969 (أي بعد سنوات من ترجمة سيد)، تدور حول التأكيد على “الطابع الثوري الحيوي” للإسلام، وهذه المحاضرات هي مادة الكتاب الذي نُشر -فيما بعد- تحت عنوان “الحكومة الإسلامية”. وكان الخميني قد خاطب الشباب قائلا: “أنتم -أيها الشباب- جنود الإسلام، عليكم أن تتعمقوا فيما أوجزه من الحديث، وتعرفوا الناس طوال حياتكم بأنظمة الإسلام وقوانينه بكل وسيلة ميسورة”.
- الثاني: أن فكر سيد -بصيغته الفارسية- ملأ فراغا قائما في الفكر الشيعي الإيراني، وخاصة في حقبة الانتقال من مرحلة الإمام الغائب المنتظَر إلى مرحلة إنشاء الحكومة الإسلامية وتولي الفقيه نفسه مسائلَ الشأن العام. فقد شكل فكر سيد أساسا هيأ لقيام الحكومة الإسلامية التي يتولاها الفقيه، وكان هذا التحول بحاجة إلى تنظيرٍ فكري يشكل لاهوتا تحرريا من الاستعمار والاستبداد معا، يُنظر للإسلام بوصفه نظاما شاملا موازيا ومناهضا للأيديولوجيات الغربية السائدة حينها.
من يقرأ محاضرات الخميني (المجموعة في كتاب “الحكومة الإسلامية”) يجده حريصا على صياغة وعي جديد لدى الشباب المعمم، يفهم من خلاله أن الإسلام نظام شامل ينظم الحياة والمجتمع. وقد بدا الخميني حريصا على نفي تهمة أن الإسلام “يُعنى فقط بأحكام الحيض والنفاس” من خلال التمييز بين نصوص القرآن والحديث من جهة، والرسائل العملية التي كتبها الفقهاء والمجتهدون من جهة أخرى.
فالعودة إلى شمولية النصوص المرجعية وتجاوز الوعي الفقهي التقليدي، بدت مسألة مهمة للانتقال إلى “ولاية الفقيه” التي لا بد أن يسبقها فعل ثوري وتأسيس للحكومة الإسلامية. فالنصوص الدينية -بحسب الخميني- تمتاز بالشمول لجميع جوانب الحياة: الاجتماع والاقتصاد وحقوق الإنسان والتدبير وسياسة المجتمعات وغيرها، وهنا يغدو التفسير الحركي لسيد شديد الأهمية ليسد هذه الحاجة النظرية، وهو ما قام به تلامذة الخميني فيما بعد من خلال الترجمة والتعليق على الأقل.
هناك تطابق لافت بين فكرة الخميني حول طبيعة الإسلام وتجاوز الانشغالات الفقهية التقليدية، وبين بعض مقولات الإخوان المسلمين الذين دأب بعضهم على ترداد الفكرة نفسها، أعني تجاوز ما سُمي “فقه الحيض والنفاس” إلى فقه الدولة، في إشارة مختزلة ومشوهة لمقررات الفقه التقليدي من أجل تسويغ تضخيم الاهتمام بالفقه السياسي تحديدا ومَرْكزته ليكون هو المحرك لكل فعل.
- الثالث: ساهمت الاستعانة بفكر سيد في السياق المذهبي الشيعي، في تجاوز جيل الثورة الأول للبعد المذهبي ولو مؤقتا على الأقل، والارتباط بمقولات الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب والارتباط بقضية فلسطين، وقد بدا هذا ملحوظا في سيرة الأسماء المذكورة سابقا ممن كان لهم اتصال بسيد أو إسهام في ترجمة أعماله، بدءا من صفوي الذي شارك في مؤتمر عن فلسطين في أثناء زيارته لمصر ولقائه سيدا وصحبه، وانتهاء بهادي خسروشاهي الذي كان عضوا في مجمع التقريب بين المذاهب، ومن ثم يغدو مفهوما لماذا بدا الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- حادا في نقده لتخلي إيران -عمليا- عن أدبيات التقريب بعد الاحتلال الأميركي للعراق والدور الإيراني الذي تعاظم فيها وساهم في تأجيج الأبعاد الطائفية، وصولا إلى مرحلة الثورات العربية التي حاولت إيران -في بدايتها- أن تنسب الفضل فيها لنفسها وأن تجعلها استمرارا لخط “الثورة الإسلامية الإيرانية” قبل أن تنقلب عليها -فيما بعد- حين وصل قطار الثورة إلى سوريا.
- الرابع: أن مصطلح الثورة لم يكن قد استُعمل في المرحلة الأولى من التحرك الداخلي ضد نظام الشاه، بل إن التحركات المبكرة كانت تستعمل تعبير “نهضة العلماء” لتجنب مفردة الثورة، ولكن خامنئي عقد سلسلة محاضرات في نحو 20 يوما تحدث فيها عن “الثورة”، وهو ما يوضح الوظيفة التي أدتها ترجمة أعمال سيد في هذا السياق حيث كان الخميني وخامنئي مشغولين بفكرة تربية الشباب وإعدادهم للثورة.
وقد تبنى خامنئي بين عامي 1968 و1971 نهج البناء الثقافي الثوري السلمي، ولكنه بدءا من عام 1970م بدأ الترويج لخطِ الخميني ومرجعيَته وإعلان الوفاء له. ولعل هذه العوامل كلها قادت -فيما بعد- إلى إصدار الجمهورية الإسلامية الإيرانية طابعا بريديا مميزا يظهر فيه سيد قطب وهو خلف القضبان، وذلك في عام 1984، أي أثناء حكم الخميني (ت. 1989)، ولا يخفى المظهر الاحتفائي لهذا الطابع البريدي، وقد التقط هذه الجزئية كل من أوليفيه كاريه وجون كالفيرت.
بلغ تأثير سيد على الفكر الإيراني الثوري عموما مبلغا جعل بعض المؤلفين يخلص إلى القول: “في إيران لا يوجد شخص يقارب سيد قطب أو محمد إقبال من حيث التأثير”، وهي مبالغة دفعت آية الله مرتضى مطهري (ت. 1979) أحد تلامذة الخميني وأحد قيادات الثورة الإسلامية إلى كتابة تعليق باللغة الفارسية على الكلام السابق وُجد ضمن مخطوطاته التي جُمعت وطُبعت بعد مقتله، يقول فيه: “على العكس من ذلك، يتمتع العلماء الإيرانيون بمكانة غير عادية، نظرا للنظام الروحاني الشيعي الخاص”.
وينطوي هذا التعليق النقدي على عدم رضا مطهري عن تجاهل أثر الرجال المعممين في إيران، علما بأن مطهري قُتل سنة 1979، أي قبل أن تتمكن دولة ولاية الفقيه. ثم راح مطهري يوضح أن مطلب الإصلاح الاجتماعي والسياسي في إيران بدأ مع عباس ميرزا (ت. 1833) الذي استعان بالقرآن لتقديم رؤية حديثة توضح تأييد القرآن لإجراء إصلاحات عسكرية على النمط الغربي، وأنه منذ ذلك الحين ظهرت -في إيران- فكرة أن الإصلاح الاجتماعي والسياسي واجب ديني وأولوية لإنجاز الإصلاح الداخلي.
ومع ذلك، فإن الخلاصة التي انتهى إليها الكاتب الأصلي، والتعليق الذي تركه مطهري على تلك الخلاصة يوضحان -في الواقع- أثر سيد في النقاش الإيراني المبكر حول الإصلاح الاجتماعي والسياسي القائم على المحافظة وأولوية التغييرات الثقافية بحسب المفهوم الإيراني للإصلاح، وهو ما يدعم دور سيد في الفكر الثوري الإيراني الذي ساهم في الانتقال إلى النظام الإسلامي الجديد. ومن اللافت أن مطهري نفسه صاحب التعليق السابق، اقتبس من كتاب “في ظلال القرآن” في مواضع في تعليقاته التي طُبعت بعد مقتله، فقد نقل -مثلا- من كتاب “الظلال” مقتطفات مطولة عن مفهوم الإيمان.
خلص يوسف أونال إلى أن أفكار سيد “لعبت دورا في صياغة الخطاب الإسلامي الإيراني في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية”، ولكن في تقديري أن تأثير سيد استمر بعد الثورة أيضا وإن اتخذ أشكالا مختلفة، ففي 11 حزيران/ يونيو 2011 ألقى قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس خطابا قال فيه: إن “من أكثر الشخصيات احتراما بين علماء الدين لدينا سيد قطب، الذي كان من أهم أعمال القائد الأعلى ترجمة كتبه وشرحها”. ولا يخفى أن هذا التصريح جاء في سياق الثورات العربية في محاولة لإثبات أن “ما يحدث في المنطقة هو من طبيعة الثورة الإسلامية ومتأثر بالدفاع المقدس” بحسب قول سليماني الذي كان يخاطب جمهورا شمل “قدامى المجاهدين” وبعض قادة “الحرس الثوري”، وذلك قبل أن يتبدل موقف إيران من الثورات مع الثورة السورية.