بعد أن حظيت بموافقة “وايت” المبدئية على الإشراف على أطروحتي في الدكتوراه، بقي أن أختار موضوعا لهذه الأطروحة، وقد لبثت حينا مُوزّعَ الميول بين مواضيع كثيرة، إلى أن قررت الاشتغال على كتاب “أعمدة الحكمة السبعة” (Seven Pillars of Wisdom) لـ”توماس إدوارد لورنس” (Thomas Edward Lawrence) أو “لورنس العرب” (Lawrence of Arabia). وقد تم الاتفاق بيننا على أن يكون عنوان الأطروحة “تجربة الصحراء عند ت. إ. لورنس: جغرافيا، سياسة، شاعرية، حكمة”.
أرى أن أول ما يحسن أن أبدأ به الكلام عن هذه الأطروحة هو يوم مناقشتها، فبعد أن كان كل شيء يحملني على الاطمئنان أنني قدمت عملا جيدا يستحق التنويه والثناء، فوجئت في هذا اليوم بأن هذا العمل، على عكس ما كنت أعتقد، قد هيَّج ثائرة أحد أعضاء لجنة المناقشة وأفقده الصواب، بحيث تجاوز كل حدود اللياقة وهو يمعن في إذلالي وإهانتي شخصيا، قبل تبخيس ما قمت به من جهد.
علمت من “أندريه” أن الجامعة قد اتخذت قرارا بحق الأستاذ الذي أساء التعامل معي، ويقضي هذا القرار بحرمانه مدى الحياة من مناقشة أي أطروحة داخل جامعة السوربون، فضلا عن حرمانه من الحق في الترشح للالتحاق بهيئة التدريس بهذه الجامعة.
كان من مظاهر تعمده الإذلال أنه لم يحضر في الوقت، حتى إن المسؤولين الإداريين عن ترتيب المناقشة اضطروا إلى الاتصال به مرات عديدة، تارة تُجيبهم زوجته أنه في طريقه إلى الجامعة، وتارة لا يجيبهم أحد، حتى إذا استيأس الجميع من حضوره بعد مرور ما يقرب من الساعة، رفع السماعة ليقول إنه سيخرج من البيت. وبينما كان الجميع يقف وقفة ذهول من تصرف هذا الشخص الغريب، جعلت أشعر بألم أشبه بوخز إبر في صدري، لم أشعر بمثله قط في حياتي. وكيف لا أتألم وأنا أرى سنوات من التضحية والكد والكدح تذهب سدى!
ما تزال كلماته ترن إلى اليوم في أذني وكأني أقف أمامه. قال بالحرف الواحد وهو يخاطبني “السيد حاجي، ما كنت لأحضر لولا أني لمست في أطروحتكم ما ينم عن كفاءة علمية ومقدرة بحثية. واسمحوا لي أن أقول لكم إن الخلل في هذه الأطروحة راجع إلى سوء التأطير…”. وبهذا أبدى سره المكتوم وكشف مخبّآته، عند سماع هذا الكلام، أدرك “وايت” أن سهام الرجل إنما هي موجهة إليه، فقاطعه متهكما “معذرة! إذا لم تخني الذاكرة، فأنا قد ناقشت أطروحتي قبل 20 سنة؛ أما اليوم فنحن مجتمعون هنا لمناقشة أطروحة السيد حاجي…”.
استأنف هذا الأستاذ غريب الأطوار الكلام وفرائصه ترتعد ليصب جام غضبه عليّ ويُخرج ما كان بداخله من حنق وهو يقول “أتدري أين أنت؟ أنت في باريس؛ مئات السنين من التحضر! كيف تبيح لنفسك التحدث بهذا الهراء! البداوة والترحال…”.
شاع خبر ما حصل أثناء مناقشة أطروحتي وذاع داخل أروقة شعبة الإنجليزية داخل جامعة “السوربون 4″، ففوجئت بجميع الإداريين الساهرين على شؤون الدكتوراه وآخرين يظهرون التعاطف معي ويقدمون لي الاعتذار على ما حدث، يقولون إن ما حصل معي لم يحصل قط مثله في الجامعة، ومنهم من كان يشجعني على كتابة رسالة احتجاج لرئاسة الجامعة.
بعد مرور مدة قصيرة وصلتني رسالة من الأستاذ “أندريه غييوم” (André Guillaume) وزوجته “روني” (Renée) يقدمان لي اعتذارهما وكأنهما مسؤولان عما حدث، ويطلبان مني التفضل بقبول الدعوة لزيارتهما في بيتهما في مدينة “أورليون”، مؤكدين على أنهما سيحجزان تذكرة سفري ذهابا وإيابا، طالبين مني التفضل بإخبارهم بتفاصيل ما يحلّ لي وما لا يحلّ من طعام حتى لا أجد أي حرج أثناء إقامتي عندهم.
وجدت في حفاوة الاستقبال والترحاب الشديد اللذين واجهني بهما “أندريه” و”روني” عزاء كبيرا وتعبيرا عن تعاطف أذهلني عما لاقيته من إذلال وإهانة يوم مناقشة أطروحتي. قال “أندريه” “المسكين وايت، سيظل شاعرا حالما، بعيدا عن الواقع لا يفهم ما يحصل من حوله، لا يدري أن كرسي شاعرية القرن الـ20 الذي منحه إياه جاك شيراك، وقد كان عمدة باريس حينها، فتح عليه أبواب العداوة من كل جانب”. علمت من “أندريه” أن الجامعة قد اتخذت قرارا بحق الأستاذ الذي أساء التعامل معي، يقضي هذا القرار بحرمانه مدى الحياة من مناقشة أي أطروحة داخل جامعة السوربون، فضلا عن حرمانه من الحق في الترشح للالتحاق بهيئة التدريس بهذه الجامعة.
كان “أندريه” و “روني” يأسفان لكون “وايت” لم يلتفت إلى أحد منهما وقد كانا بصدد ترجمة “أعمدة الحكمة السبعة” إلى الفرنسية ترجمة جديدة. فقد كان بمقدورهما، لو أنهما علما بالأمر، تقديم يد المساعدة باقتراح أشخاص مناسبين ومحترمين لمناقشة أطروحتي القيمة بحسب رأيهم. وقد عبّرا عن هذا الرأي في أكثر من إحالة على هامش الترجمة لـ”أعمدة الحكمة السبعة”، متحدثين عن أن الأطروحة تفتح أفقا جديدا بتناولها للجانب الأدبي-الشعري من هذا الكتاب. لم يقف إعجاب “أندريه” و”روني” بالعمل عند حد الثناء، بل اقترحا علي إرسالها لدار النشر (L’Harmattan) المحترمة، وقد عبرا لي عن استعدادهما لكتابة رسالة تزكية. فالفضل كل الفضل في نشر هذه الدار لكتابي عن “لورنس العرب أو عرب لورنس” يعود بالأساس إليهما، ثم إلى “وايت” من بعدهما.
لا بد أن أفتح هنا قوسا للحديث عن طبيعة العلاقة التي توطدت بيني وبين “أندريه” و”روني”، هذه العلاقة التي ظل يملؤها الاحترام والتقدير الكبيرين، والتي تعدت حدود التبادل الأكاديمي إلى الجانب الإنساني.
كان “أندريه” ونحن نتبادل أطراف الحديث عن شبابهما في بريطانيا، حيث كانا أستاذين زائرين يصنعان مستقبلهما العلمي، لا يتوانى في كل مرة جاء على ذكر أم “روني” أن يصفها بأقذر النعوت، كأن يقول “حماتي العزيزة التي لو ألقيتها داخل مياه الصرف الصحي لتسببت في تسميم جميع الجرذان”. وكنت أحمل كلامه هذا على حس الدعابة البريطاني.
كانت “روني” تردد في أكثر من مقام أنها تريد أن تعتنق الإسلام لولا الخوف من ردة فعل ابنها الذي وجد أخيرا نوعا من السكينة بالقرب من مجموعة من المسيحيين. وقد علمت أن ابنهما قد حاول الانتحار، وأنه ظل منطويا على ذاته لا يتحدث، ولما تحدث بعد بلوغه سنا متأخرة، كان حديثه شعرا. وكنت أجد حرجا في استيضاح الأسباب، حتى بعثت لي “روني” نسخة من كتابها “صمتٌ مُدَوّي” (Un silence assourdissant).
لا أذكر أن عيني ذرفت من الدمع مثلما ذرفت وأنا أقرأ كتاب “روني” فأكتشف أن السبب في انطواء ابنهما على نفسه وفي كل ما عاشته العائلة من مآسٍ جراء هذا الانطواء هو -كما سيكتشف الجميع بعد سنوات- أن الابن كان ضحية الاغتصاب المتكرر في صغره، وأن المغتصب لم يكن شخصا آخر سوى جدُّه، أبو “روني”، بحضور جدته وبمباركتها. فبينما كان “أندريه” و”روني” يتركان ابنهما، أعز ما كانا يملكان، وديعة عند والديها، وهما يلاحقان الأمل المزروع في صدرهما في بلوغ مناصب عليا، كان الجد يقوض أسس الأسرة التي كانا يحلمان بها باغتصاب حفيده.
ظلت العلاقة بيني وبين “أندريه” و”روني” علاقة متينة، يطبعها الاحترام والتقدير. وكنت أحرص على زيارتهما في كل مرة أتيحت لي الفرصة. لكن التواصل الحقيقي بيننا كان عبر المراسلات البريدية. كنت أنتظر رسائل “روني” بشغف كبير، ذلك أنها كانت تحمل في طياتها أسئلة وجودية كبرى وتأملات عميقة في الأدب والتاريخ والدين والنفس البشرية. وكنت أجد متعة لا تضاهى في التفاعل مع هذه الرسائل التي كانت ما تزال تُكتب بخط اليد.
لم يكن “أندريه” يحب الكتابة. كان يكتفي بإرسال قصاصات الصحف المتضمنة لبعض الأخبار التي يراها مهمة بالنسبة لي مع بعض الملاحظات القصيرة بخط يده. وكنت أستمتع بحديثه عن بواطن السياسة الفرنسية وخباياها، عن علاقة “جاك شيراك” بأفريقيا، وقد كانت تجمعه به علاقة حزبية، وعن تاريخ الملكية في بريطانيا.
علمت منه ذات يوم، ونحن نتجاذب أطراف الحديث عن العلاقة بين الإسلام وفرنسا، أن “فانسون منصور مونتي” (Vincent Mansour Monteil)، مترجم مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية، هذا الرجل الذي كم وددت أن ألتقي به، يعيش مختبئا في عِلية داخل عمارة في باريس، لا يخرج منها خشية أن يُغتال. قال لي إن الرائج في أوساط النخبة الباريسية أن الرجل قد اختل عقليا.
انقطعت أخبار “أندريه” و”روني” عني بعد مرور سنوات، وبينما أنا في مدينة “أورليون” في صيف 2015 قررت زيارتهما؛ وقفت ببابهما مترددا، هل أدق الباب أم لا؟ هل ما يزالان على قيد الحياة؟ كان الهدوء التام يلف المكان إلا من صوت الجرس يرن بالداخل. وقبل أن أعود أدراجي نحو سيارتي سمعت صوت مصراع باب الشرفة يفتح وإذا بـ”روني” تطل علي من خلفه بوجه شاحب انطمست من فوقه علامات الحياة. خُيّل إلي أنها تنظر ولا ترى. ألقيت عليها التحية وذكرتها باسمي وبمن أكون. قالت بصوت خافت “معذرة سيدي، فأنا لا أعرفك!”. ثم توارت خلف مصراع باب الشرفة.
كان في نبرة صوت “روني” الحزينة اختزال لحالة الإنسان التراجيدية.
أغلق القوس، لأعود إلى التفصيل في أهم الأفكار التي تمحورت حولها أطروحة الدكتوراه وما رافقها من صراعات واكتشافات.
(يتبع)