حظي الانقلاب العسكري الذي نفذه رئيس الحرس الجمهوري في النيجر الجنرال عمر تياني باهتمام عالمي لم يسبق له مثيل. يحدث ذلك رغم أن النيجر بلد اعتاد الانقلابات والصراعات بين العسكر والمدنيين؛ فمنذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960 شهدت 6 انقلابات عسكرية، منها ما نجح ومنها ما تم القضاء عليه في مهده.
وبالنظر إلى التاريخ السياسي للنيجر، فإن أطول فترة حكم مستقرة كانت تحت حكم العسكر، وذلك عندما قاد الجنرال حسين كونتشي أول انقلاب في العام 1974، أطاح فيه بزعيم الاستقلال هاماني ديوري، وظل يحكم بيد من حديد حتى وفاته في العام 1989، وخلفه الجنرال علي شايبو الذي قاد البلاد نحو الانفتاح الديمقراطي ونظم أول انتخابات تعددية في العام 1993.
بدأت منطقة الساحل الأفريقي تكتسب أهمية إستراتيجية أكبر في السنوات العشر الأخيرة، وذلك لأسباب اقتصادية وأمنية وإستراتيجية.
من جانب، تعاظمت قوة “الحركات الجهادية” في المنطقة وتمددت لتغطي معظم الصحراء الأفريقية الكبرى التي أصبحت ممرًا مهما لتجارة البشر والجريمة المنظمة والإرهاب، وتجنيد شباب القبائل العربية والصحراوية المتمردة على سلطة الدولة. أصبحت طرق الصحراء تمثل تهديدًا لدول أوروبا الغربية بسبب الهجرة غير النظامية ونشاط الجماعات الإرهابية.
ومن جانب آخر، بدأت اكتشافات البترول تبشر بمخزون وفير في تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا والسنغال، بالإضافة إلى الغاز الطبيعي والذهب ومعادن نفيسة أخرى؛ مما جعل المنطقة ساحة صراع دولي على الموارد الطبيعية ورهانات التمدد الجيوسياسي الإستراتيجي.
وهناك أيضًا موقع هذه المنطقة الإستراتيجي الذي يستمد أهميته من موقع القارة نفسها، حيث تربط هذه المنطقة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي وبين أفريقيا جنوب الصحراء وشمال أفريقيا وأوروبا.
هذه الأسباب كلها أشعلت نار الصراع الدولي على هذه المنطقة، حيث تميزت 3 قوى أساسية:
- المجموعة الغربية التي تمثلها فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية.
- المجموعة الشرقية التي تمثلها روسيا والصين.
- مجموعة الاقتصادات الناشئة التي تمثلها الهند وتركيا والبرازيل وإيران.
ولكل مجموعة حلفاء وأنصار يدورون في فلكها ويخدمون أجندتها.
وبما أن النيجر أكبر دول الساحل مساحةً، وتتمتع بموقع إستراتيجي جعلها تمثل همزة وصل بين دول أفريقيا جنوب الصحراء وشمال أفريقيا وصولًا إلى أوروبا، ونظرًا لحالة الاستقرار السياسي التي شهدتها في السنوات العشر الأخيرة، حيث سيطر عليها نظام ديمقراطي حليف للغرب ومنفتح على الشرق؛ فقد عززت القوى الغربية والشرقية وجودها في هذا البلد، واحتدم الصراع حوله لأسباب أمنية واقتصادية.
الوجود الفرنسي الأميركي
تاريخيًا، ظلت فرنسا القوة الحاكمة في منطقة الساحل الأفريقي منذ استقلال دولها في العام 1960 وحتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، واستفادت من 3 مميزات أساسية:
- الثقافة: حيث اعتمدت كل دول الساحل اللغة الفرنسية لغة رسمية.
- الاقتصاد: وسيطرت عليه بتحكمها في العملة الموحدة لهذه الدول، وهي الفرنك الأفريقي.
- التعاون العسكري والأمني.
ظلت السياسة الفرنسية في المنطقة سياسة قابضة طوال العهد الديغولي، ولمع اسم السياسي الفرنسي جاك فوكار بوصفه مهندس السياسة الفرنسية الأفريقية، إلا أن هذه السياسة شهدت تطورًا في العام 1993 بقيادة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي صرح بأن فرنسا لن تكون “شرطيّ أفريقيا”. ودعم ميتران بشدة قيام أنظمة ديمقراطية في مجموعة دول الساحل. ومنذ ذلك الحين أصبح الدفاع عن الأنظمة الديمقراطية مرتكزًا لسياسة فرنسا الأفريقية، لكن السياسة الفرنسية في المنطقة تراجعت، ويرى البعض أنها فشلت في حماية المصالح الفرنسية، لا سيما بعد انقلاب مالي في العام 2020 حيث ألغى النظام العسكري الحاكم الاتفاقات العسكرية مع فرنسا وطالب بخروج القوات الفرنسية من البلاد، وتحول إلى تعاون وثيق مع روسيا عبر مجموعة فاغنر.
بعد طرد القوات الفرنسية من مالي استضافتها النيجر حيث توجد الآن قاعدة عسكرية قوامها 1500 جندي، وكثفت فرنسا تعاونها العسكري مع النيجر، لكن معضلة فرنسا الرئيسية هي تنامي العداء الشعبي للوجود الفرنسي، لا سيما وسط الشباب الذين يعدّون فرنسا المسؤول الأول عن حالة التبعية السياسية والتخلف الاقتصادي لبلادهم.
منطقة الساحل الأفريقي بدأت تكتسب أهمية إستراتيجية أكبر في السنوات العشر الأخيرة لأسباب اقتصادية وأمنية وإستراتيجية، وذلك بعد الاكتشافات البترولية الأخيرة، ولمواجهة خطر الجماعات الجهادية هناك، وللموقع الوسيط للقارة الأفريقية بين الشرق والغرب
حفز تراجع الدور الفرنسي في المنطقة واشنطن على التمدد في منطقة الساحل الأفريقي، وتنظر أميركا إلى هذه المنطقة بمنظور إستراتيجي واقتصادي؛ إذ إن منطقة الساحل الأفريقي الكبرى تنتهي في السنغال عند المحيط الأطلسي؛ مما يجعلها أقرب إلى الشاطئ الشرقي الأميركي، كما أن تزايد اكتشافات النفط في دول المنطقة يتيح لأميركا الحصول على خام جيد وأقرب جغرافيًّا من نفط الشرق الأوسط في منطقة أقل اضطرابًا.
ولذلك ركزت واشنطن في السنوات العشر الأخيرة تواجدها في هذه المنطقة الإستراتيجية، وصعدت وتيرة تعاونها العسكري مع جيوش دول الساحل للحد من نشاط جماعات الجريمة المنظمة والحركات الإرهابية عبر الصحراء الكبرى.
وأقامت أميركا أكبر قاعدة عسكرية للتجسس في مدينة أغاديز (شمال النيجر)، وكلفت أكثر من 100 مليون دولار، وهي أكبر قاعدة في أفريقيا للطائرات المسيرة؛ مما مكنها عمليا من التجسس على دول شمال أفريقيا وشرقها، وملاحقة الجماعات الإرهابية، كما أنها تحتفظ بأكثر من ألف جندي في قاعدتها بالنيجر.
وبالإضافة إلى فرنسا وأميركا، تحتفظ كل من ألمانيا وإيطاليا بعدد محدود من الجنود في النيجر، كما تسعى تركيا بعد الاتفاق الذي وقعته مع حكومة النيجر في العام 2021 إلى بناء قاعدة عسكرية في النيجر، لم يحدد موقعها بعد.
الوجود الروسي الصيني
لدى روسيا وجود قديم في منطقة الساحل والغرب الأفريقي، أسهم في تعزيز عدم تدخل روسيا كقوة استعمارية، بل كقوة ثورية ضد الاستعمار الغربي، وشهدت معظم دول الساحل في سنوات السبعينيات وثمانينيات القرن الماضي انقلابات قادها ضباط موالون لروسيا من أمثال حسين كونتشي في النيجر وموسى تراوري في مالي وتوماس سانكارا في بوركينا فاسو، الذي أصبح أيقونة للثورة على الاستعمار لدى ملايين الشباب الأفارقة حتى اليوم.
ظلت روسيا على الدوام أكبر سوق للسلاح؛ مما عزز دورها في مجال الأمن والدفاع. وحديثًا دخلت إلى المنطقة عبر واجهة جديدة هي مجموعة فاغنر التي مثلت يدها الطويلة في أفريقيا، وحققت روسيا اختراقًا كبيرًا بعد تحالفها مع النظام العسكري في مالي، وتوسع هذا الدور عقب انقلاب بوركينا فاسو ثم انقلاب غينيا، الذي لم يعلن التحالف رسميا مع موسكو لكنه أقصى من السلطة حليف فرنسا الأساسي الرئيس السابق ألفا كوناري، هذا فضلا عن الوجود الروسي القوي في أفريقيا الوسطى عبر الرئيس أنج تواديرا الذي عزز نفوذه في السلطة بعد التعديل الدستوري في نهاية يوليو/تموز الماضي.
تحاول الأنظمة العسكرية فى مالي وبوركينا فاسو استمالة العسكر في النيجر للتحالف مع موسكو لحماية نظامهما الذي تتهدده العواصف، ولكن المشكلة أن التعاون مع روسيا أمني عسكري وليس لموسكو الكثير الذي تقدمه لدفع اقتصادات تلك الدول المتهالكة، ولا شك أن فشل الأنظمة العسكرية في توفير وضع اقتصادي أفضل للمواطن يعجل برحيلها، ومن هنا تبرز أهمية التحالف الروسي الصيني في المنطقة.
من جانبها، تعدّ الصين أكبر مستثمر في القارة الأفريقية، وتسعى عبر الوسائل الناعمة إلى التغلغل في العمق الأفريقي وضرب المصالح الفرنسية والأميركية، وتحقق نجاحًا ملحوظًا في ذلك.
تسيطر الصين مثلا على سوق النفط في منطقة الساحل، خاصة في النيجر وتشاد ومن قبل في السودان. وكانت تجربتها الناجحة في استخراج البترول السوداني في نهاية القرن الماضي حافزًا لها للتوغل في تشاد والنيجر. وهي تحرص بشدة على وجودها في هذه المنطقة المهمة وتعزيز نفوذها فيها في إطار إستراتيجية أمن الطاقة، مما وضعها في مواجهة غير مباشرة مع المجموعة الغربية.
بدأت الصين بناء أطول خط أنابيب ناقل للنفط في أفريقيا بالنيجر، بطول 2000 كيلومتر (1200 ميل)، يمتد من وسط النيجر إلى ميناء كوتونو في جمهورية بنين، ومن المتوقع أن ينتهي في العام 2024. تصدر النيجر حاليًا نحو 20 ألف برميل في اليوم، ومن المتوقع أن يرتفع إنتاجها إلى أكثر من 200 ألف برميل بحلول عام 2025.
سيطرة الصين على مجال النفط جعلتها شريكًا تجاريًا أساسيًا للنيجر؛ لذلك فإن الصين مهتمة جدًا بالتطور السياسي الذي يجري هناك لتأثيره المباشر على مصالحها الاقتصادية واستثماراتها الهائلة في البلاد، هذا فضلا عن منافسة الشركات الصينية في استخراج الذهب واليورانيوم، حيث تصنف النيجر الرابعة عالميًا في إنتاج اليورانيوم.
وفي سياق نشاط مجموعة الشرق، دخلت الهند حديثًا إلى سوق الساحل الأفريقي، وهي تركز على التجارة والخدمات، وقد أقامت صالة مؤتمرات فخمة في نيامي باسم قاعة المهاتما غاندي، كما نفذت مشروعات كبيرة في مجالي الطرق والسياحة.
انقلاب يخلط الأوراق
انقلاب 26 يوليو/تموز الماضي في نيامي خلط كل الأوراق، ووضع جميع شركاء النيجر أمام تحدٍ حقيقي في القيم والمصالح والشعارات، وستكون الخيارات صعبة لكل الأطراف.
بالنسبة للمجموعة الغربية، يبدو التحدي أكبر بين القيم المعلنة والمصالح. هذه المجموعة تعلن إيمانها بالديمقراطية، وتعدّها مفتاح التعامل مع الأنظمة، وتؤكد أنها الوسيلة الأصح لتحقيق الرفاه والتنمية والاستقرار. وفي ضوء ذلك، عجلت هذه القوى بإدانة الانقلاب وطالبت بالعودة إلى النظام الدستوري وعودة الرئيس المنتخب محمد بازوم.
ويبدو أن الرئيس بازوم يراهن أيضًا على التزام الغرب بالديمقراطية، لذلك كتب صراحة في المقال المنسوب إليه في الصحافة الأميركية أنه يؤمن بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لتحقيق التنمية والاستقرار في النيجر، وطالب الغرب بالوفاء بتعهداته بحماية النظام الديمقراطي في بلاده. ولكن “العسكر آذانهم خرساء”.
لذا؛ فإن كان الغرب يؤمن بأن الديمقراطية قيمة إنسانية مشتركة، يجب عليه الدفاع عنها بشراسة في أي مكان حتى وإن اضطر إلى استخدام القوة لنصرة الحق.
ولكن هذا الموقف سيهدد بشدة مصالح الغرب في النيجر؛ فبإمكان العسكر إغلاق القاعدتين الفرنسية والأميركية كما فعلوا قبل ذلك في مالي، ويستبدلونهما بمجموعة فاغنر، ويمكنهم في ظل التحولات الدولية الكبيرة الراهنة التحالف مع الشرق؛ مما يعني خسارة الغرب أمنيا واقتصاديا وإستراتيجيا خسارة لن تعوض. فهل سيضحي الغرب بقيمه المعلنة لأجل المصالح؟
بالنسبة إلى مجموعة الشرق، فإن روسيا تبدو رابحة، وسيتمدد نفوذها لتصبح قوة حاكمة في الساحل الأفريقي؛ فهي متمركزة أصلا في مالي وبوركينا فاسو والكونغو وأفريقيا الوسطى والآن في النيجر.
ولكن تجربة التحالف مع روسيا لم تثبت نجاعتها، إذ لم تمكن الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو من الحد من تمدد الحركات الجهادية رغم الدعم العسكري من موسكو؛ ففي بوركينا فاسو تسيطر الحركات على نصف البلاد، وفي مالي تسيطر على كل الشمال.
وعمليا على الأرض، فقد نجحت حكومة الرئيس بازوم المدعومة من الغرب أن تحد من هجمات الحركات الجهادية أفضل بكثير مما فعلت حكومتا مالي وبوركينا فاسو المدعومتان من الشرق. أما عن المساعدات الاقتصادية، فإن روسيا لا تستطيع أن تقدم الكثير، لا سيما بعد حربها الممتدة في أوكرانيا.
بالنسبة إلى الصين التي تتمسك بموقفها المعروف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتركيز على الاستثمار والتجارة وحدهما، فإن هذا الموقف يضعها أمام تحدٍّ أيضا. إذا رأينا تجربة الصين في النيجر فإن جميع العقود الكبيرة التي حظيت بها في مجالات البترول واليورانيوم والذهب تمت في عهد حكومات ديمقراطية، هي حكومة الرئيس المنتخب محمد تانجا (1999-2010) والرئيس المنتخب محمد بازوم.
إن قبول الصين بالأمر الواقع -أيا كان- في النيجر يجعل أنصار الديمقراطية يتساءلون سؤالا مشروعا: كيف تكون الصين صديقا للجزار والضحية على السواء؟ وربما يفكر هؤلاء في المستقبل تفكيرا براغماتيًا: أن يستثمر ثرواتنا من يؤمن بمبادئنا ويدافع عنها عند الشدة.
أما العسكريون الانقلابيون فإنهم أمام تحدٍّ صعب أيضا، لأنهم سيدركون غدًا أن عليهم إدارة بلد يعتمد في مأكله ومشربه ومأمنه على دعم الغرب، وأن المواطنين الضعفاء الذين خرجوا لتأييدهم في شوارع نيامي إنما خرجوا يبحثون عن الأمل في حياة أكثر رخاءً وأمنا، وهذا لن يتحقق من دون دعم خارجي. هذه التحديات المعقدة وصراع القيم والمبادئ يؤكدان أن حل الأزمة الراهنة في النيجر يحتاج إلى أفكار خلاقة.