اجتمع هذا الأسبوع في الثلاثاء 11 يوليو/تموز الجاري 2023 قادة دول حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) في العاصمة الليتوانية فيلنيوس وبحثوا كيفية تقديم المزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا وإقرار أول خطة دفاعية شاملة للحلف منذ نهاية الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أن الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا منذ ما يقارب عاما ونصف العام أعادت الحيوية إلى هذه المنظمة ودفعتها إلى نفض الغبار عن عقيدة الحرب الباردة واستدعائها مجددا احتواء وريثة الاتحاد السوفياتي فإن أمرا أساسيا كان لا يزال محل خلاف بين دول الناتو، وهو متى تنضم أوكرانيا إلى الحلف، ثم قال بايدن في القمة إن قادة الحلف اتفقوا على أن تكون أوكرانيا عضوة فيه بعد الحرب.
بوتين اعتقد أن الناتو لا يملك الجرأة على ضم أوكرانيا، فقد افترض أن عواقب حربه الواسعة على أوكرانيا ستكون محدودة، وكان هذا الافتراض غير دقيق إلى حد بعيد، لكنه حتى الوقت الراهن لا يزال يعمل في جزئية أن الناتو لا يزال مترددا في ضم أوكرانيا في ظل الحرب
الكثير من دول الناتو -بمن فيها بعض الأعضاء الذين يريدون انخراطا أكبر في دعم وتسليح أوكرانيا- تحسب جيدا العواقب المؤكدة لضم أوكرانيا إلى الحلف في ظل الحرب الدائرة، ولا تريد أن تجد نفسها مجبرة على تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف للدفاع المشترك والمخاطرة في صراع مباشر مع روسيا.
وعوضا عن ذلك قدمت هذه الحجج خيارا آخر، وهو زيادة الدعم لأوكرانيا، وتم التعهد صراحة بأنها ستدعى للانضمام إلى الحلف لكن بعد انتهاء الحرب.
يكشف اختلاف المقاربات داخل الناتو بشأن مستقبل أوكرانيا مأزقا كبيرا واجه الحلف لنحو عقدين ولا يبدو أنه قادر على الخروج منه، ويجادل الكثير من الخبراء بأن وعد الناتو بضم جورجيا وأوكرانيا في قمة بوخارست في عام 2008 تسبب في هذا المأزق.
ويبدو ذلك صحيحا، فبدلا من أن يجعل هذا الوعد أوكرانيا وجورجيا آمنتين من روسيا أدى إلى نتيجة معاكسة تماما، ففي نفس العام ردت روسيا على هذا الوعد بغزو جورجيا وفصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها، وبعد ذلك بـ6 أعوام ضمت شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وجعل تردد الناتو في الوفاء بوعد الضم روسيا تشعر بأنها قادرة على مواجهة عواقب تهديدها لجوارها.
لم تكن موسكو لتشن حربا واسعة على أوكرانيا بعد 8 سنوات من ضم القرم لولا أنها استمدت جرأتها من مأزق الناتو في أوكرانيا، إذ إن بوتين اعتقد أن الناتو لا يملك الجرأة على ضمها، فقد افترض أن عواقب حربه الواسعة على أوكرانيا ستكون محدودة، وكان هذا الافتراض غير دقيق إلى حد بعيد، لكنه حتى الوقت الراهن لا يزال يعمل في جزئية أن الناتو لا يزال مترددا في ضم أوكرانيا في ظل الحرب.
في قمة فيلنيوس سيُظهر الناتو هذه المرة أنه بدأ يتحرر جزئيا من مخاوفه بضم أوكرانيا عبر التأكيد على أنها ستصبح عضوة في نهاية المطاف.
ومع ذلك، فإن الافتراض الغربي بأن هذا التحرر سيضغط على بوتين للتفكير جديا في عواقب المضي طويلا في هذه الحرب يبدو أقل واقعيا من منظور الحسابات الروسية.
إذا كان الافتراض أن روسيا قررت شن حرب واسعة على أوكرانيا من أجل قطع الطريق على مساعي عضويتها في الناتو فإن فرضية أن الرئيس فلاديمير بوتين سيكون متسامحا مع فكرة أن تنضم أوكرانيا إلى الحلف بعد انتهاء الحرب تبدو ساذجة إلا إذا كان الغرب يفترض أن روسيا ستتسامح مع أوكرانيا أطلسية في ظل حدودها الجغرافية الجديدة التي يريد بوتين رسمها بعد ضم 4 أقاليم أوكرانية للاتحاد الروسي.
وفي الواقع، يعكس المأزق الأطلسي في أوكرانيا مأزقا آخر مشابها لروسيا أيضا، فمع اقتراب الحرب من طي عام ونصف تتزايد القناعة لدى موسكو وكييف والغرب بأن أي طرف لن يتمكن بأي حال من تحقيق نصر حاسم في الحرب.
ومع أن مأزق روسيا يبدو أكبر لأنها لم تتمكن حتى الآن من تحقيق سوى بعض أهداف الحرب لكنها سعت للتكيف مع هذا المأزق من خلال تقليص قائمة الأهداف واقتصارها على ضم 4 مقاطعات أوكرانية لأراضيها.
وبهذا المعنى تحولت موسكو من موقف الهجوم إلى الدفاع نسبيا، في محاولة للاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي استولت عليها منذ بداية الحرب، لكن هذا التحول لا ينهي المأزق، فلا تزال مساحات واسعة من المقاطعات الأربع تحت سيطرة القوات الأوكرانية، كما أن كييف بدأت هذا الشهر هجوما مضادا في جنوب شرق البلاد.
وبسبب أن الموارد العسكرية الروسية تتركز في الوقت الحالي لصد الهجوم الأوكراني المضاد فإن فرص كييف لتغيير ديناميكية الصراع عبر هذا الهجوم تبدو متواضعة، وحتى لو نجحت أوكرانيا في طرد القوات الروسية من بعض المناطق فإن ذلك لا يعني أن الحرب تقترب من نهايتها، لأن القوات الروسية ستحاول الحشد مجددا من أجل تحويل خطوة ضم الأقاليم الأربعة إلى أمر واقع.
وبالنسبة للناتو والغرب عموما فإن مجرد أن تنخرط روسيا في حرب استنزاف طويلة الأمد يعني أن جانبا من الأهداف الغربية في إفساد نصر لبوتين في أوكرانيا قد تحقق، لكن هذه النتيجة لن تكون مشجعة أيضا.
إن استمرار الحرب لفترة أطول دون حدوث تغييرات جوهرية على خارطة الصراع سيساعد روسيا على تكريس سيطرتها على المناطق التي استولت عليها في شرق وجنوب شرق أوكرانيا منذ عام 2014، كما سيؤدي إلى تراجع شهية كييف لمواصلة القتال وربما أيضا تراجع شهية الغرب لمواصلة دعمها بالطريقة التي يفعلها الآن.
ومن المثير للغرابة أن الناتو يخطط لتحديد شكل العلاقة مع أوكرانيا في المستقبل، في حين أنه لا يمتلك رؤية واضحة لكيفية انتهاء الحرب الراهنة، ويعكس هذا التخطيط قناعة لدى الغرب بأن كييف لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكسب هذه الحرب بالطريقة التي تعني هزيمة روسيا، لكنه يهدف إلى تقوية موقف أوكرانيا في أي اتفاق سلام محتمل مع موسكو في المستقبل.
مثل هذه الإستراتيجية تبقى منطقية طالما أنها تسعى أولا إلى تجنب توسيع رقعة الحرب الحالية إلى مواجهة عسكرية بين روسيا والناتو، وثانيا لأنها تمنح كييف خيارات مربحة على المدى البعيد للتفكير في مزايا الدخول في مفاوضات مع موسكو.
ويمكن القول إن الناتو استطاع حتى الآن التعامل بشكل فعال مع هذه الحرب من خلال انخراط دوله في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا لمواجهة الهجوم الروسي وإحداث موجة جديدة من التوسع عبر ضم فنلندا ومحاولة ضم السويد إلى المنظومة الأطلسية.
إن السؤال الصعب الذي يبحث الغرب عن إجابة له يكمن في كيفية مساعدة أوكرانيا على استعادة الأراضي التي خسرتها في هذه الحرب وقبلها شبه جزيرة القرم دون أن يضطر الناتو إلى الدخول في صدام عسكري مع روسيا.
نظريا، سعى الغرب لإيجاد بعض الحلول لهذه المعضلة من خلال الانخراط في تسليح أوكرانيا بالأسلحة والمعدات الثقيلة، لتمكينها من استعادة بعض أراضيها وإجبار روسيا على الانخراط في عملية سلام لإنهاء الحرب، لكن هذا الدعم لم يصل بعد إلى المرحلة التي يمكن أن تجبر بوتين على الشعور بأنه بدأ يخسر هذه الحرب وبالتالي التفكير في مزايا التفاوض، وستبقى أوكرانيا تشكل صداعا للناتو بالقدر الذي تشكله لروسيا.