هذه التجربة التي أضعها بين أيدي القراء تتميز بالثراء، وتوضح كيف واجه صحفيون في التاريخ العربي قيود الطغاة، وعبروا عن آمال شعوبهم في العدل والحرية والاستقلال الشامل.
لا زلت في الجزائر مؤرخا لصحافة الكفاح، والموضوع هو “الصحافة اليقظانية” التي تمثل حقبة مهمة في تاريخ الصحافة الجزائرية، وكيف شاركت في تشكيل وعي الشعب الجزائري بهويته، وأعدته للثورة ضد الاحتلال الفرنسي.
وهذا المصطلح يصف 8 صحف أصدرها الشيخ حمدي بن إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان (1888-1973)، وهو فقيه وأديب وشاعر شارك في إنشاء جمعية “العلماء المسلمين” بالجزائر.
تعرفت على “الصحافة اليقظانية” عام 1995، وأنا أعمل لتطوير نظرية “صحافة الكفاح الوطني”، وأذكر أنني استشهدت بأبيات للشيخ أبي اليقظان في إحدى محاضراتي يقول فيها:
إن الصحافة للشعوب حـــــياة والشعب من غير اللـسان موات
فهي اللسان المفصح الذلق الذي ببيــــــانه تتـــدارك الغــــايات
فهي الوسيلة للسعادة والهـــــنا وإلى الفضـــائل والعــلا مرقـاة
تتعدد جوانب شخصية الشيخ، لكن أهم ما يميزه أنه كان صحفيا مهنيا، واصل تحدي السلطات الفرنسية، ساعيا للتغلب على قيود الرقابة والحظر.
رحلة الصحف الثماني
عمل الشيخ في صحف التونسية خلال دراسته في جامع الزيتونة، وعاد إلى الجزائر عام 1926 ليصدر صحيفته الأولى “وادي ميزاب”، لكنه لم يجد مطبعة تقبلها بسبب مراقبة السلطات الفرنسية للمطابع، فطبعها في تونس، ثم نقلها للتوزيع في الجزائر.
بعد 3 سنوات تنبهت سلطة الاحتلال لذلك، فعطلت الصحيفة في 18 يناير/كانون الثاني 1929.
لكن الشيخ لم يستسلم، فأصدر صحيفة جديدة باسم “ميزاب” في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1930، لكن السلطات الفرنسية عطلتها في العام نفسه، وطلبت من الحكومة التونسية إصدار أمر بمنع طباعة أية صحيفة يصدرها أبو اليقظان.
في مواجهة ذلك يمم الشيخ وجهه ناحية المغرب لطباعة صحيفته الثالثة، لكنه لم يتمكن، لذلك قرر إنشاء “المطبعة العربية” في الجزائر، وأصدر صحيفته الثالثة “المغرب” في 1930 باسم صديقه “تاغموت عيسى بن يحيى” بسبب الحظر على إصدار الصحف باسمه، وتم تعطيل هذه الصحيفة هي الأخرى.
في سبتمبر/أيلول 1931، أصدر صحيفته الرابعة باسم “النور”، وعطلتها سلطات الاحتلال الفرنسي لاستخدامها مصطلح “الاستدمار” بديلا عن كلمة “الاستعمار”.
وهكذا ظل الأمر سجالا، يصدر صحيفة فيعطلونها فيصدر أخرى، وهكذا ظهرت “البستان” للنور في أبريل/نيسان 1933 باسم تاغموت عيسى، واستمرت 3 أشهر، ووراءها “النبراس” في يوليو/تموز 1933، وتعطلت بعد شهر واحد، ثم جاءت “الأمة” وهي السابعة، وكانت أطول صحفه عمرا فقد استمرت حتى مايو/أيار 1938.
ثم كانت “الفرقان” صحيفته الثامنة والأخيرة، وعطلت في أغسطس/آب 1938، بعد صدور 6 أعداد فحسب، ووضعت مطبعته تحت مراقبة دقيقة وتفتيش مستمر، ولم يسمح له بإصدار صحيفة جديدة.
معركة الإرادة
لكن لماذا تعاملت السلطات الفرنسية بتلك القسوة مع أبي اليقظان وصحفه؟
هنا يبدو لنا أولا أن كسر الإرادة كان هدفا استعماريا، فالإرادة تشجع على المقاومة والتحدي والثورة، وكان إصرار الشيخ على متابعة إصدار الصحف في حد ذاته ملهما للأمة في تلك السنوات التي بدأت فيها الاحتشاد خلف هويتها.
وعالج الشيخ في صحفه مختلف القضايا، واستكتب كبار كتاب عصره من داخل الجزائر ومن المشرق العربي، وتكشف قواعد الاستكتاب التي وضعها ملامح مهنية صارمة، فهو يشترط الاختصار تفاديا للملل الذي قد يصيب القارئ فيصرف اهتمامه، ويشترط أن يترك الكتاب الذين ينشرون بأسماء مستعارة أسماءهم الحقيقية لدى إدارة الصحيفة، وذلك لضمان المصداقية ومواجهة الانتحال، ويشترط الالتزام بالحكمة والنزاهة والاعتدال، مع تحاشي الأشخاص والشخصيات أو الكتابة في المواضيع الفارغة، وهو أخيرا يحتفظ بحق الصحيفة في نشر المقال أو رفضه، وفي الطريقة التي يُحرر وينشر بها.
الحرية في كتابات أبي اليقظان
كان مفهوم الحرية -المنضبطة بالرؤية الإسلامية- من أهم الموضوعات التي حرص عليها منذ صدور صحيفته الأولى “وادي ميزاب” التي أكدت أن “الحرية معنى ينشده كل حي، ويتطلبه كل موجود، به الحياة والسعادة والحضارة والعمل والاختراع والابتكار والعمل والارتقاء، ينفق كل فرد في نيله أعز ما لديه، ويبذل ما في قواه للبلوغ إليه”.
وقد طالب في هذا السياق بإزالة القيود على حرية التعبير والنشر والابتكار، وإيقاف التضييق على كل ما يصدر بالعربية، أو يستخدم لهجة تحررية إصلاحية، “فيخط القلم ما يوحيه الوجدان الطاهر والعقل السليم”.
كسر الإرادة كان هدفا استعماريا، فالإرادة تشجع على المقاومة والتحدي والثورة، وكان إصرار الشيخ على متابعة إصدار الصحف ملهما للأمة في تلك السنوات التي بدأت فيها الاحتشاد خلف هويتها
وهو كذلك يطالب بحرية تكوين الجمعيات بمختلف أنواعها العلمية والأدبية والفنية، “فالعمل الجمعوي الحر عنصر فعال في حركة النهوض، وتخطي الصعاب”.
ثم هناك تلك الدعوة الجريئة إلى النضال المسلح لمواجهة الاستعمار، يقول “ليس من الحرية أن يتم إلحاق الضرر بحرية الآخرين، لكن ذلك يقتصر على الحرية بين أفراد المجتمع، أما إذا كان الأمر يتعلق باستقلال بلد من براثن الاستعمار، فوجب استعمال السلاح دفاعا عن الدين والوطن”.
يعلق الباحث الجزائري خيري الرزقي على هذا النص في بحث له “إن هذا المفهوم يعني الدعوة إلى إعطاء السيادة والحرية للجزائر وشعبها في حكم نفسه بنفسه، وضبط حدودها الطبيعية بإدارة شؤونها، وخارجيا بتمثيل نفسها لدى الأمم الأخرى”.
يربط أبو اليقظان الحرية بالإسلام الذي يشكل هوية الجزائر فيقول “إن للحرية ثمنا، ولا تحصل بالخيال والأماني، فحرية التفكير والقول والعمل يجب أن تكون في دائرة الدين الحق.. فهذه هي الحرية الحقة التي تستمد نورها من الفطرة البشرية السليمة، لذلك يجب أن تكون حرية التعبير والنشر والتفكير بعدم الخروج عن تعاليم الدين الإسلامي والآداب العامة والقوانين الشرعية”.
وفي كثير من المقالات نجده يربط بين الدين والأخلاق فيقول “من صفات الحر الأخلاق المهذبة، ونظافة السجايا، وإحقاق الحقوق”، وهو أيضا يربط بين حرية الصحافة وأخلاقياتها، فيطالب الصحفيين بتحري الصدق، والإيمان بالمبدأ، والاستماتة في التعبير عنه.
بين الحرية والتربية
ربط أبو اليقظان بين الحرية والتربية والتعليم فقال “إن من أسباب ضياع حرية الأمم هو عدم سهرها على تربية أبنائها تربية صحيحة، وتلقينهم تعاليم الدين، وعدم تعليمهم بمناهج تخدم وطنيتهم، وتعزز فيهم روح الانتماء، فإذا أرادت الأمة أن تسير نحو الحرية؛ وجب عليها غرسها في أبنائها بغرس العلم والتربية الصحيحة لما لهما من دور في تكوين الشخصية”.
لذلك طالب “بثورة علمية وأدبية واقتصادية للنهوض بالأمة وإخراجها من واقعها”، ووجه الدعوة للأغنياء “لإنشاء المدارس ليتخرج فيها رجال الزعامة والإصلاح ورجال العلم والأدب ورجال الصناعة والزراعة والتجارة؛ فالوطن يحتاج إلى أفراده المخلصين وقت البلاء والمحنة والضيق”.
ويضيف “لتحقيق الحرية يجب أن تقوم الأمة بالإصلاح التربوي، وإعداد جيل يحمل المشعل”. وبذلك عبر أبو اليقظان عن الفكرة الرئيسية التي تبنتها جمعية العلماء المسلمين في الجزائر.
الدعوة لتماسك المجتمع
ثم هناك رسالته المتكررة الداعية للوحدة والتماسك في مواجهة الاحتلال، فيقول مثلا “أيها الجزائري المسلم، إنك أخو الجزائري المسلم دينا ولغة وجنسا ووطنا وسرورا وألما”.
وكما اهتم بقضية الجزائر، اهتم كذلك بالقضايا العربية والإسلامية كلها، فصحيفة “المغرب” -على سبيل المثال- صدر قرار تعطيلها بسبب وصفه الجيش الإنجليزي بأنه “أداة لخدمة أطماع الصهيونية، وأنه يقوم بحماية الصهاينة ليرتكبوا الفظائع في حق الأبرياء”، وهو يكرر الدعوة للفلسطينيين في صحفه بالاستمرار في المقاومة.
هذه بعض ملامح تجربة صحفية مهمة أسهمت في توعية الشعب الجزائري، وإعداده للثورة ضد الاحتلال الفرنسي.