قبيل ساعات من قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة، توصلت تركيا مع السويد لاتفاق أفضى إلى تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعرض قضية انضمامها للحلف على البرلمان للمصادقة عليه.
قمة أوكرانيا والسويد
ليس من المبالغة القول إن الحرب الروسية-الأوكرانية ألقت بظلالها بشكل كامل على قمة فيلنيوس؛ فمن جهة أتت القمة بعد إعلان أوكرانيا عن هجومها المضاد على القوات الروسية، ومن جهة ثانية كانت معظم المداولات والقرارات تتعلق بالدعم المقدم لأوكرانيا في الحرب، خاصة في المجال العسكري، ومن جهة ثالثة كانت عضوية كل من أوكرانيا والسويد في الناتو على رأس جدول الأعمال.
وإذا وقفت عقبات حقيقية أمام ملف عضوية أوكرانيا في الناتو؛ وفي مقدمتها التحديات الفنية المتعلقة بشروط العضوية بسبب تبعات الحرب وارتداداتها في المقام الأول، وكذلك الموقف المتحفظ أو غير المتحمس لعدد من الدول المؤثرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة؛ فإن مسألة عضوية السويد كانت تنتظر موافقةً تركيةً تأخرت كثيرًا من منظور ستوكهولم والحلف.
فقد كانت تركيا تحفظت على عضوية كل من السويد وفنلندا لأسباب تتعلق بموقف الدولتين من مكافحتها المنظمات الإرهابية والانفصالية، بما في ذلك حظر تصدير الأسلحة لها، والسماح بأنشطة داعمة لحزب العمال الكردستاني وامتداداته السورية على أراضيهما.
كان الرئيس التركي -وقبل توجهه لليتوانيا للمشاركة في القمة، قرن بين عضوية السويد في الناتو وحق بلاده في عضوية الاتحاد الأوروبي
وأفضى إصرار أنقرة على موقفها من جهة، وحاجة البلدين لعضوية الناتو في ظل تطورات الحرب في أوكرانيا من جهة ثانية؛ لتوقيع مذكرة تفاهم بين الدول الثلاث برعاية الناتو في القمة السابقة في مدريد، حيث تتعهد فيه كل من ستوكهولم وهلسنكي بخطوات ملموسة بخصوص التعاون مع أنقرة في ملف مكافحة الإرهاب، ووقف حظر توريد الأسلحة. وبناء على قناعة تركيا بأن فنلندا أوفت بالتزاماتها في هذا الإطار، فقد وافقت على ملف عضويتها في مارس/آذار الفائت، مبقية ملف السويد معلقا بانتظار “خطوات ملموسة” من الأخيرة، لا سيما أن الخطاب الرسمي التركي ازداد حدة بعد سماح السلطات السويدية لبعض المتطرفين بإحراق نسخ من المصحف الشريف.
خلال الأشهر القليلة التي سبقت القمة، قامت ستوكهولم بعدة خطوات باتجاه أنقرة؛ أهمها تعديل دستورها وقانون مكافحة الإرهاب لديها، ومحاكمة بعض المتهمين بدعم العمال الكردستاني وفق التعديل الجديد، فضلا عن تسليم أنقرة أحد المطلوبين لها. ورغم أن السويد ومن خلفها الناتو أصرا على أنها أوفت هكذا بكامل التزاماتها تجاه تركيا وفق مذكرة التفاهم الثلاثية، وبالتالي ضرورة موافقة تركيا “من دون أي تأخير” على عضويتها في الناتو ومشاركتها في قمة فيلنيوس، إلا أن أنقرة حافظت على خطابها الرسمي الذي رهن الموافقة بخطوات إضافية من السويد.
الموافقة التركية
بناء على ما سبق، ومع أولويات عمل البرلمان التركي الجديد بعد الانتخابات، بات من المستبعد أن تقر أنقرة ملف عضوية السويد في الناتو قبل القمة، لكن أيضا باتت مساحات المناورة أضيق عليها من السابق في ظل سعي الناتو الحثيث لضم الأخيرة من زاوية مواجهة روسيا، بما رجّح لدينا إمكانية حصول اختراق من خلال اتفاق جديد أو مكمّل بين البلدين، وهو ما حصل.
قبل قمة فيلنيوس بساعات فقط، وبعد قمة ثلاثية جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون والأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ؛ أعلن بيان مشترك صادر عنها عن اتفاق إضافي بين تركيا والسويد وافق أردوغان بموجبه على إحالة بروتوكول انضمام السويد إلى البرلمان التركي “في أقرب وقت ممكن، والعمل عن كثب مع المجلس لضمان التصديق عليه”.
الاتفاق المذكور أتى بعد جهد دبلوماسي تركي مكثف مع مختلف الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وبالنظر إلى بنوده يمكن القول إنه اتفاق تركي مع أكثر من طرف، وإن وقعت عليه ستوكهولم فقط.
يضم الإعلان -الذي نشر بعد القمة الثلاثية- 7 بنود؛ أهمها تحويل ملف عضوية السويد للبرلمان التركي للموافقة، وتشكيل إطار أمني ثنائي بين تركيا والسويد على المستوى الوزاري (إضافة للإطار الثلاثي مع فنلندا)، ودعم السويد مسار انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تطوير الاتحاد الجمركي وإلغاء تأشيرة “شينغن” على المواطنين الأتراك، فضلا عن تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، إضافة إلى تعيين منسق خاص لمكافحة الإرهاب داخل حلف الناتو.
البنود المتعلقة بالسويد تحيل على تأكيد المتفق عليه سابقا في مذكرة التفاهم الثلاثية ووضع برنامج عملي للتنفيذ والمتابعة أكثر مما تحيل على مواد جديدة. ولذلك فإن المتغير الأساسي قبيل إبرام الاتفاق متعلق بأطراف أخرى تشير إليها بنود الاتفاق من جهة والجهود الدبلوماسية التركية من جهة أخرى.
فقد كان الرئيس التركي -وقبل توجهه لليتوانيا للمشاركة في القمة- قرن بين عضوية السويد في الناتو وحق بلاده في عضوية الاتحاد الأوروبي؛ وعليه فإن البند المتعلق بـ”دعم مسار عضوية تركيا” في الاتحاد يفهم على أن هناك تعهدات من بروكسل في هذا الإطار، وهو ما أكدته تصريحات لمسؤول تركي لوكالة بلومبيرغ بأن “مسؤولي الاتحاد الأوروبي وافقوا على تسريع مفاوضات عضوية أنقرة” فيه، وبما يشمل تحديث الاتحاد الجمركي ورفع التأشيرات عن المواطنين الأتراك.
من جهة ثانية، ومن دون أن ينص الاتفاق على ذلك، يُفهم أن التواصل مع الإدارة الأميركية قد أفضى لتعهدات بتسريع صفقة مقاتلات “إف-16” (F-16) وربما فيما يخص ملفات أخرى، ويدعم هذا التوقع كثافة التواصل الهاتفي بين وزيري خارجية البلدين والاتصال بين الرئيس الأميركي جو بايدن وأردوغان قبل القمة، لا سيما أن بيان وزارة الخارجية الأميركية عقب الاتصال الأخير أكد -إضافة إلى عضوية السويد في الناتو- على أنه “قد حان الوقت لتقوية التعاون التركي-الأميركي في مجال الدفاع”.
وفي المحصلة، يبدو الاتفاق إعلانا عن مرحلة جديدة تضع الموافقة التركية على عضوية السويد رهنا بالتطورات في الملفات المذكورة، مما يعني أن الأشهر القليلة المقبلة ستكون محكا مهما لمصير الاتفاق وبالتبعية عضوية السويد في الناتو.
صحيح أنه من الصعب على تركيا أن تتنصل من موافقتها على الملف، لكن بنود الاتفاق تترك ثغرات يمكن أن تعيق التنفيذ. ومن ذلك عدم النص على تاريخ أو توقيت عرض الأمر على البرلمان التركي. وحيث إن الأخير في إجازة حتى بداية أكتوبر/تشرين الأول القادم، وأن المسار الدستوري سيستغرق وقتا؛ فإن ذلك يترك للحكومة التركية وقتا كافيًا لتقييم مدى التزام السويد والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالبنود المتعلقة بكل منها.
في المقابل، فإن البنود المتعلقة بالاتحاد الأوروبي -أو المفهومة ضمنا مع الولايات المتحدة- أمامها تحديات حقيقية؛ فأي تقدم في ملف تركيا الأوروبي من المتوقع أن يصطدم بالفيتو اليوناني والقبرصي على أقل تقدير، بينما ما زال من غير الواضح إذا كان الرئيس الأميركي يملك الرغبة والقدرة على تمرير صفقة “إف-16” رغم توجهات الكونغرس بفرض شروط على أنقرة بالحد الأدنى، وربما رفض الصفقة أو تأجيلها في الوقت الحاضر.
وختامًا، فإن الاتفاق المذكور حقق للطرفين بعض المكاسب المرحلية، لكنه ما زال بعيدًا عن تحقيق نتائج نهائية لأي منهما؛ فقد كسبت ستوكهولم موافقة تركية أولية وخطوة إجرائية بعرض الملف على البرلمان التركي، لكنها لا تضمن النتيجة فضلا عن التوقيت، وإن أصبحت عضويتها في حكم المؤكد المؤجل.
في المقابل، فقد حققت تركيا بعض المكاسب على صعيد تعاون السويد معها في مكافحة الإرهاب ووعودا وتعهدات أوروبية وأميركية بخصوص العلاقات الثنائية، فضلا عن تدعيم سرديتها بخصوص المنظمات الإرهابية، لا سيما العمال الكردستاني، لكنها لا تضمن سرعة هذه المسارات فضلا عن انتهائها كما تريد، بالإضافة إلى أنها لا تضمن عدم تبدل المواقف بعد الموافقة النهائية على عضوية السويد في الناتو التي ستفقدها شيئًا من أوراق الضغط التي تستخدمها حاليًا.