(1)
تبدو الأمور سيئة للغاية، تعتقد أنك انتهيت، وأن حياتك قُضي عليها، ولا مستقبل لك، ثم فجأة تصبح حديث العالم.
عفوا.. ليس فجأة.
ولكن بعد أن تُصر على المقاومة.
(2)
بعد عقود من الاحتلال الأوروبي، ومنذ منتصف القرن الماضي، والقارة الأفريقية تتعرف على استقلالها شيئا فشيئا عبر ثورات شعبية، لكن عام 1959 تحديدا كان محملا بالبشرى لبقعة أفريقية بالأخدود الأفريقي المتصدع، وهي رواندا السمراء المتحررة من سوط المحتل البلجيكي.
ومن هذا العام وحتى عام 1962 كانت الثورة الرواندية تؤتي ثمارها، لتستبدل النظام الملكي الموالي للاستعمار بنظام جمهوري وطني جديد، إلا أن الأمر لم يكن مقتصرا على فئة موالية وفئة متمردة، ولأن الفئة الموالية للاستعمار هي من قبائل التوتسي، ولأن الجمهورية الجديدة نشأت على سواعد المتمردين من قبائل الهوتو، فإن عداء تاريخيا نشأ بين الفئتين.
وعلى خلفية هذا الشقاق أنشأ التوتسي المنبوذون الجبهة المتمردة الرواندية بأوغندا، ليعيدوا من خلالها الهيمنة التوتسية على رواندا، لتندلع الحرب الأهلية في بلادهم بين عامي 1990 و1994، التي أودت بحياة ما يقرب من مليون إنسان، جلهم من التوتسي الذين تعرضوا لواحدة من أفظع أشكال الإبادة في العصر الحديث.
تمر 5 سنوات من البحث حتى تسمع بقصتهما الإعلامية الأميركية الأشهر أوبرا وينفري، فتقرر استضافتهما لتسمع منهما قصة الحرب والهروب واللجوء قبل الاستقرار، وتحكي الفتاتان خبرتهما المريرة
(3)
في خِضم هذه الأحداث كانت هناك عائلة “واماريا”، التي خاف الأب على ابنتيه “كليمانتين” و”كلير”، فأودعهما بيت جدهما، حتى تسلما من المذابح الجارية، لكن ما كان بيت الجد ببعيد عن أيدي الهوتو، فطالته نيران الإبادة حتى قُتِل الجدُ ومن في بيته، إلا الفتاتين.
هربت الفتاتان واختبأتا داخل جذع شجرة موز لعدة أيام، ثم قررتا مواصلة الهرب، فظلتا في ترحال بعيدا عن عيون أعدائهما لنحو 3 أشهر، حتى انضمتا إلى قوافل اللاجئين الهاربين من المذابح، إلى خارج رواندا.
تمر الأيام، تتزوج الكبيرة “كلير” وتضطر -برفقة زوجها- لتطوف بـ7 بلاد حتى وصلوا الولايات المتحدة وقرروا الاستقرار بها، ومعها أختها الصغرى”كليمانتين”، بعد 6 أعوام من الترحال.
في أميركا وجدت العائلة اللاجئة نفسها في بيئة لا تعرف عنها شيئا، ولا حتى لسان أهلها، لكن مدرسة الصغيرة كليمانتين الداخلية ساعدتها على التأقلم، في حين شقت كلير وعائلتها الجديدة طريقها نحو الثقافة الأميركية.
تحكي كليمانتين فتقول: إنها كانت طفلة لا تصدِق ما كانت تمرُ به، وإنها كانت تغمض عينيها كثيرا، أملا في أن تستيقظ ذات يوم لتكتشف أنها كانت في حلم، صحيح هو حلم بشع، ولكنه حلم على أية حال، وهو ما سيهوِن الأمر.
تتذكر ما جرى في إحدى المحاكمات التي حدثت لمجرمي الهوتو بعد الحرب، حين قال أحد الجناة: إنهم لم يكونوا يرون التوتسي بشرا، وإنما محض حشرات، ولهذا هان عليهم قتل جيرانهم وأصدقائهم بدم بارد، وبأبشع دروب القتل.
تمر الأيام وتندمج الفتاتان في المجتمع الأميركي، ولكن الحرب والإبادة لا تزولان من الذاكرة، تواجه كليمانتين في إحدى دروسها نشاطا عن الإبادة الجماعية فيرتجف جسدها وتتذكر 100 يوم من الرعب خاضتها قبل سنين الهرب.
(4)
وفي عام 2001 تقع المفاجأة المدوية:
يصل إلى أسماع كليمانتين وكلير أن والديهما على قيد الحياة، وقد أصبح لديهما أخوان صغيران وُلِدا في زمن اللجوء، لكن لا أحد يعلم أين هم.
تضطرب الفتاتان وتخفق القلوب، ولكن ما من سبيل للقاء، تبحثان في سجلات الصليب الأحمر، في كشوف اللاجئين لدى الأمم المتحدة، في كل مكان يمكن أن توجد فيه الأسرة المفقودة، والنتيجة… لا شيء.
تمر 5 سنوات من البحث حتى تسمع بقصتهما الإعلامية الأميركية الأشهر أوبرا وينفري، فتقرر استضافتهما لتسمع منهما قصة الحرب والهروب واللجوء قبل الاستقرار، وتحكي الفتاتان خبرتهما المريرة، حتى تقرر أوبرا مفاجأتهما: “معي رسالة من والديكما”، ليصبح الحلم على شفا الحقيقة لأول مرة منذ الافتراق.
تمر الصدمة خفيفة سعيدة على قلب الأختين، فترى أوبرا أنها اللحظة المناسبة للقنبلة الثانية: يا فتاتان، خلف هذا الباب يقبع حلمكما الكبير الذي سيبدِد كابوس السنين، فينفتح الباب ليخرج من ورائه رجل وامرأة وصبي وفتاة، إنها عائلة واماريا التي فرقتها الإبادة قبل 12 عاما.
وفي لحظة قلما يجود الزمان بمثلها ذابت الأجساد في الأجساد وانهمرت الدموع تسقي الضحكات، لقد التقت الأسرة المنشقة على ركام الحرب البائدة، واتصل ما قطعته سكاكين الإبادة قبل سنوات.
(5)
تمضي الأعوام، وتقف كليمانتين الشابة على منصة تيدكس تروي لنا قصتها، وتخبرنا أنها وأختها وأهلها لا يتكلمون أبدا عن الماضي، وكأنه شبح مخيف أبيد مع الإبادة، ولا يرغبون في اجتلاب روحه المفزعة، ولتخبر الحضور أن فوضى العنف لا تزال مستمرة في نفسها حتى لو انتهت صيحاتها من أرض الواقع.