“التعليم هو جواز سفرنا للمستقبل، لأن الغد ملك الذين يعدون له اليوم”؛ هذا ما قاله مالكوم إكس.
والواقع أن التعليم هو المفتاح الرئيسي لصنع التقدم في العالم العربي؛ فلا نهضة حقيقية بلا إرادة لبعث روح التعليم الجاد في أرجاء الوطن العربي؛ ليس لمحو الأمية فحسب، ولكن ليتمتع كل شاب بأفضل مقومات التعليم المعاصر ويعوض نفسه ووطنه وأمته عما فات وليضع بذور مستقبل لائق.
وإذا كان من خطر يهدد الأجيال الشابة اليوم، فلا شيء يضاهي غزو التعليم الأجنبي لمعظم الدول العربية، حيث يدرس الأبناء بلغة أجنبية مناهج أعدت بأيد أجنبية لتحقيق أهداف دول وحضارات أجنبية وتثبيت رؤيتها للكون والحياة والإنسان.
الأمم والحضارات هي رؤية للحياة ومنظومة أفكار وأخلاق وأهداف، ولذلك يجب أن نتوقف طويلا عند التأثير السلبي لتعليم أبنائنا -ليس لغة أجنبية- بل رؤية أجنبية وثقافة وحضارة بديلة، وهذا التأثير السلبي لا يطال الحاضر وحده، بل يمتد ليؤثر على مستقبل الأمة العربية وفرصها في النهوض واحتلال المكانة التي تستحقها في العالم.
تحيط بنا مظاهر الزهو بين عديد من الطبقات الاجتماعية بالأبناء والأحفاد الذين لا يجيدون التحدث بالعربية ويحتاجون من يترجم لهم في التعاملات اليومية في أوطانهم، وهم في الوقت نفسه يتسابقون إلى إتقان اللغات الأجنبية دون لُكْنة، وكأنها لغاتهم الأم.
يصاحب هذا الزهو بريق في العيون وسعادة فائقة ويقين بأنهم وضعوا أولادهم وأحفادهم على طريق النجاح والتميز والحياة الرغدة.
وإذا كنا لا نختلف على أهمية بذل المال والجهد لتعليم أبنائنا لغات أجنبية، فإننا يجب أن نحذر في الوقت ذاته من عدم تعليمهم ما ينشط اعتزازهم بالهوية العربية، فمع التعليم الأجنبي تظهر في كثير من الأحيان أعراض النظر بدونية إلى الثقافة والهوية العربية، بل والتبرؤ منها.
كما نحرص على تعاطي الأمصال للوقاية من الأمراض يجب كذلك تعاطي الأمصال الثقافية التي تحمينا من الانبهار بكل تفاصيل التعليم الأجنبي فلا شيء يعطل العقول كالانبهار.
يجب كذلك تناول المقويات التي تمنع ضعف المناعة وتزرع الاعتزاز الذكي بالهوية فتركز على مزاياها دون أن تنكر عيوبها، ودون أن تضخم تلك العيوب أو تخجل منها أمام الغرب، فلكل حضارة نقاط قوة وأسباب ضعف.
تتجاوز أضرار “فقدان احترام الهوية” الخسائر الأسرية، لتمتد إلى خسارة الوطن عندما يتولى الأبناء مناصب مؤثرة بعد انتهاء دراساتهم الأجنبية؛ إذ سيديرون المؤسسات التي يرأسونها وكأنهم أجانب عن الوطن
نود قبل إلقاء أولادنا في أحضان التعليم الأجنبي تحصينهم من الانحناء أمام الغرب وتذكيرهم بفضيلة رفع الرأس، وتنفس احترام الهوية، لأنها جزء مهم جدا من احترام الذات، وهي أكسجين النجاح النفسي والعملي والاجتماعي أيضًا.
نذكر ما حكاه شاعر عربي شهير كان يتنفس مرارة وحسرة لأن بناته اللاتي حرص على تعليمهن بالخارج لا يحترمن ما يكتبه وأضاف “وربما لا يحترمون أسرتي ولا أنا أيضا”.
تتجاوز أضرار “فقدان احترام الهوية” الخسائر الأسرية، لتمتد إلى خسارة الوطن عندما يتولى هؤلاء مناصب مهمة ومؤثرة بعد انتهاء دراساتهم الأجنبية؛ إذ سيديرون المؤسسات التي يرأسونها وكأنهم أجانب عن الوطن بكل ما تعنيه الكلمة، مع تبعية كاملة للخارج، ونظرة دونية إلى بلادهم، وتعالٍ وإهمال لمصالحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخطر مصالحه الثقافية التي تشكل وجدان أبنائه وتتحكم لاحقا في تفكيرهم وتصرفاتهم التي تصنع الحاضر. وترسم ملامح المستقبل وأولوياته.
نسخ مقلدة
ولنتدبر قول نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح يمكن استخدامه لتغيير العالم”، فواجبنا نحو هويتنا هو التأكد أن التعليم ليس سلاحًا نصنعه بأيدينا لنزع هويتنا وإضعاف قوتنا وسرقة ما يميزنا لنتحول إلى نسخ مقلدة من الآخرين ولو بعد حين.
لا يقتصر خطر التعليم الأجنبي على أولئك الذين يتعلمون خارج الوطن؛ فالخطر قائم أيضا في التعليم الأجنبي داخل الوطن حيث إجبار الصغار منذ دور الحضانة على التحدث باللغة الأجنبية مع أقرانهم في المدرسة ثم في المنزل “لإتقان اللغة الأجنبية”، وهو ما لا يحدث في أمم تحترم هويتها.
من الخطورة الفادحة تربويا ونفسيا وإنسانيا أن يفكر الإنسان منذ صغره بغير لغته وينتمي إلى غير ثقافته؛ فيتكلم ويغني ويشاهد الأفلام والمسلسلات ويتابع وسائل التواصل الاجتماعي مع مجتمع غير مجتمعه وبغير لغته، فكيف نطلب منه الاعتزاز بهويته وألا يزدريها وينبذها وهو يرى أن الابتعاد عنها ومحاولة الالتحاق بغيرها هو سبيله الوحيد للتميز وصنع مستقبل أفضل.
وإذا كان “كل يأكل من غرس يده”؛ فما سنجنيه من الأجيال الجديدة لن يكون أفضل من البذور التي نغرسها ونرويها.
من الواجب إذن أن نعلم أولادنا اللغات الأجنبية، وما يحويه التعليم الأجنبي من علم نافع، ولكننا يجب علينا أيضا نحرص على تعليمهم اللغة العربية وخصائص الثقافة والهوية وتربيتهم على الاعتزاز بها، وأن نعلمهم مبكرًا أن الآخر لن يقدرهم بأكثر مما يقدرون أنفسهم، وأن يضعوا أمام أعينهم وفي عقولهم وقلوبهم ما قاله الإمام الشافعي: “ما رفعت أحدا فوق منزلته إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه”.
في التعليم الأجنبي، يتسلل إلى الوعي منذ الصغر ما يتعمد غرسه هؤلاء في أولادهم من اعتزاز بالهوية الأجنبية -أيا كانت- ومن النظرة العنصرية للآخرين فضلا عن رواية التاريخ من وجهة نظرهم التي تتبنى مصالحهم الثقافية والاستعمارية والاقتصادية ومفاهيمهم الاجتماعية التي تتعارض معنا أيضا.
يجب تحمل مسؤوليتنا التاريخية والثقافية وحماية أجيالنا الجديدة من امتصاص هذه السموم، وضرورة إعمال عقولهم فيما يتلقونه من تعليم أجنبي داخل الوطن وخارجه لتنقية و”فلترة” ما يدرسونه.
وعلينا الحرص على تعليمهم اللغة العربية منذ الصغر؛ فاللغة ليست مجموعة كلمات للتواصل الإنساني بل أداة لتعميق الارتباط بالوطن والتاريخ والهوية، أو أداة للاغتراب عن كل ذلك.
يقول محمد إقبال: “التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ويجعلها كيفما يشاء”، فلنمنع ذوبان هوية أبنائنا، وليفوزوا بتعليم يخدم أوطانهم ولا يخدم أعداءهم أبدًا، فالتعليم كما قال إدوارد إفريت “يحرس البلاد أفضل من جيش منظم”، وهو كما قال ستالين “سلاح يعتمد تأثيره على من يمسك به وإلى من يتم توجيهه”.