تناولت في مقال الأسبوع الماضي كيف شكّلت ترجمة أعمال سيد قطب إلى الفارسية، عملاً ثوريًّا ملأ الفراغ النظري القائم في الفكر الشيعي -وخاصة الإيراني- في مرحلة ما قبل الثورة، وسد حاجة كانت قائمة في سياق الإعداد للثورة الإسلامية الإيرانية. أما هذا المقال فسأوضح فيه أثر سيد قطب في الفكر الإسلامي الإيراني المعاصر من خلال محورين:
- الأول: أثر سيد قطب على الخميني وخامنئي الشخصيتين الأبرز في الثورة الإسلامية الإيرانية.
- والثاني: أشكال حضور سيد قطب وسياقات الاقتباس عنه في الكتابات الإيرانية المعاصرة.
أولاً: أثر سيد قطب على الخميني وخامنئي
من تمام بيان أن ترجمة أعمال سيد قطب إلى الفارسية شكّلت فعلاً ثوريًّا، التوقفُ عند أثر ثورية سيد قطب على الشخصيتين الأبرز في إيران الإسلامية، وهما روح الله الخميني (ولد 1902 وتوفي 1989) وعلي خامنئي (ولد 1939).
أما بالنسبة للخميني، فيبدو أثر فكر سيد قطب عليه غامضًا؛ نظرًا لأن الخميني لم يأت على ذكره أو الاقتباس منه صراحة في حدود ما وقفت عليه. ومن ثم خلص بعضهم إلى استقلالية الخميني عن التأثر بسيد قطب، وقد ترجع هذه الخلاصة إلى أن سيد قطب لا يَرد له ذكر في عمل الخميني، وإلى رمزية الخميني لدى تابعيه التي تأخذ منحى شبه مقدس، وإلى اختلاف المذهب أيضًا، فكل ذلك ربما فرض القول باستقلالية الخميني، ولكنني أرى أن أثر أفكار سيد قطب في الخميني يمكن إثباته من خلال 3 أمور على الأقل:
- الأمر الأول: أن المترجمين الذين ذكرتهم في المقال السابق باستثناء أحمد آرام (ولد 1902 وتوفي 1998)، معدودون في تلامذة الخميني، وأعني علي خامنئي ومحمد حسيني خامنئي (ولد 1935) وهادي خسروشاهي (ولد 1938 وتوفي 2020). فقد كانوا من الشباب الناشطين في الثورة الإسلامية، ووُلدوا في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، ثم حصلوا على مناصب مهمة بعد نجاح الثورة. فعلي خامنئي خَلف الخميني على منصب المرشد، وهادي خسروشاهي انتُخب ممثلاً للخميني في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. أما محمد حسيني خامنئي الأخ الأكبر لعلي فقد صار أحد واضعي دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهذا يعني أن الخميني لم يكن بعيدًا عن أفكار سيد قطب؛ بما أن مترجمي الأخير كانوا ضمن الحلقة القريبة من الخميني، وخاصة في مرحلة الإعداد للثورة وتأهيل جيل الشباب الذي سيحمل رايتها.
- الأمر الثاني: أن محاضرات الخميني التي نُشرت في كتابه الأشهر “الحكومة الإسلامية”، كانت قد أُلقيت بعد إعدام سيد قطب وبعد ترجمة بعض أعماله إلى الفارسية من قبل تلامذة الخميني المذكورين. وفي كتاب “الحكومة الإسلامية” نجد تشابهًا بين بعض أفكار الخميني والأفكار الثورية العامة لسيد قطب، إذا ما استثنينا الإضافة الخاصة بالمذهب الشيعي عمومًا والخميني خصوصًا (كأطروحته المركزية حول ولاية الفقيه). ففي كتاب الخميني نجد حديثًا عن أربع أفكار مركزية نجدها عند سيد قطب، وهي:
- الأولى: الحديث عن غربة الإسلام، والهوة التي تفصل الإسلام الحقيقي عن الفهم الشائع لدى عامة الناس، وأنه لم يبق من الإسلام إلا اسمه، وأنه انتهى نهاية مفجعة؛ لأننا لم نفكر في تنظيم المجتمع وإسعاده بواسطة حكومة إسلامية.
- الثانية: أن الإسلام يحتوي على نظام شامل للحياة، وخاصةً في تنظيم المجتمع، وأنه يجب تعليم نظمه بكل وسيلة.
- الثالثة: حاكمية الإسلام للمجتمع، وهي حاكمية القانون الإلهي؛ فالحاكم هو الله وحده، ومن ثم فالنضال من أجل هذه الحاكمية (أو تشكيل “الحكومة” بلغة الخميني) توأم الإيمان بالولاية.
- الرابعة: أن الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام هي أنظمة شرك، ومن ثم يجب الاحتجاج عليها، وثمة مسؤولية عن “تربية وتنشئة جيل مؤمن فاضل يحطم عروش الطواغيت ويقضي على سلطاتهم غير الشرعية”، وأنه “لا سبيل لنا إلا أن نعمل على هدم الأنظمة الفاسدة المفسدة ونحطم زمر الخائنين والجائرين من حكام الشعوب. هذا واجب يكلف به المسلمون جميعًا أينما كانوا من أجل خلق ثورة سياسية إسلامية ظافرة منتصرة”. هذا بالإضافة إلى أفكار حول نقد الغرب، وبيان التفوق الخلقي للإسلام والمسلمين على الغرب المادي، والحملة على المُلك العضوض التي تشيع في كتاب “الحكومة الإسلامية”.
من الواضح أن الأفكار الأربعة السابقة التي ترد في محاضرات الخميني، تحيل بشكل مباشر إلى سيد قطب؛ فالحاكمية هي الأصل الذي تفرع عنه كل شيء؛ فهي حاكمية سياسية، ومن ثم تدور مفاهيم الإيمان والإسلام والشرك على إقامة “الحكومة الإسلامية” و”حاكمية القانون الإلهي”، وأن الجهاد لإقامة هذه الحاكمية هو من مقتضيات شهادة التوحيد عند سيد قطب وتوأم الإيمان بالولاية عند الخميني (وهنا تظهر الإضافة الشيعية)، وأن المطلوب هو هدم هذه الأنظمة وتحطيمها من خلال إنشاء “الطليعة المؤمنة” بلغة سيد قطب، وتنشئة “جيل مؤمن فاضل” بلغة الخميني.
أما علي خامنئي فهو أحد أبرز القيادات الشيعية تأثرا بأفكار سيد قطب، وقد وصفه بـ”المفكر المجاهد”. انفعل خامنئي بفكر سيد قطب خلال فترة شبابه الثوري وانخراطه ضمن الخلايا السرية المناوئة لنظام الشاه في إيران؛ فقد تحرك مع الحوزة العلمية في قُمّ استجابة لنداء الخميني سنة 1962، واعتُقل خامنئي عدة مرات بين عامي 1962 و1975.
وكان قد فرّ من مدينة مشهد؛ بسبب ترجمته لكتاب سيد قطب “المستقبل لهذا الدين”؛ فقد تضمّن الكتاب -وخصوصًا مقدمته وحواشيه التي كتبها خامنئي- نفَسًا ثوريًّا يرى في الدين منهجًا ثوريًّا. ومما جاء في مقدمة خامنئي ذات النفَس القطبي: “أن الإسلام -بقدرته ومقوماته الطبيعية- سوف يتولى قيادة البشرية…. وستنهزم أمامه كل قوى الظلام والتفرعن والتجبر لتخفق رايته على المعمورة”، وأن “الإسلام -على سعة رقعته الجغرافية والسكانية- دين مجهول غريب”، و”مظاهره السائدة في العالم الإسلامي لا تدل إطلاقا على انتشار معارفه”، و”الأغلبية الساحقة من المسلمين لا يزالون ينظرون إلى الإسلام على أنه مجموعة من الطقوس والعبادات التي لا ترتبط إطلاقًا بالحياة ومقومات الحياة، غافلين عن الجانب الأكبر من هذا الدين المبين، وعن مبادئه الحياتية، ظانين أن العمل بجانب من الأحوال الشخصية والعبادات الفردية كافٍ لأن يصبح الإنسان مسلما كاملا”.
قاد التفكير الحركي الثوري لدى سيد قطب (وغيره من الحركيين) إلى اتخاذ موقف نقدي من التاريخ الإسلامي، بدءًا من الصحابة رضوان الله عليهم والخلافة الأموية، وذلك في سياق تنظير الحركيين عامة للنظام السياسي في الإسلام
أوضح خامنئي أن ثمة مؤامرة من العدو لأجل “عزل الدين عن الجوانب الثورية الحركية، وجعله خاليًا من أي تأثير على الساحة الحياتية”، ومن ثم لا بد من “جهاد متواصل لا يعرف الكلل والملل، ولا يهاب الحرمان والفشل، من أجل إفهام الناس بأن هذه القشور التافهة ليست هي الدين، هذه الظواهر الفارغة ليست هي منهج الرسالة الخاتمة إلى العالمين”.
ومن اللافت أن حديث الخميني سابقًا في محاضراته عن غياب الإسلام وبقاء اسمه فقط، وحديث خامنئي هنا في مقدمة الترجمة عن “القشور التافهة” و”الظواهر الفارغة” للدين سنجد له نظائر شائعة في كلام سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن” حيث يحمل على التدين الفردي من أجل تدين ثوري تترجمه -فقط- الحاكمية السياسية.
أغضبت ترجمة كتاب “المستقبل لهذا الدين” أجهزة أمن الشاه، فصودر واعتُقل اثنان من مسؤولي مطبعة خراسان التي طبعت الكتاب، ولكنَّ الكتاب طُبع ووزّع عن طريق آخر، فأصرّ جهاز الأمن على مطاردة خامنئي واعتقاله بعد كشف خلايا التنظيم المعارض في قمّ، ثم تمكنت أجهزة الأمن من اعتقال خامنئي أوائل عام 1967م بسبب الكتاب، كما أفاد الموقع الرسمي لخامنئي.
ترجم خامنئي -بحسب قائمة منشوراته التي نشرها موقعه الرسمي- 3 أعمال لسيد قطب هي: “في ظلال القرآن”، وكان خامنئي يدرّس التفسير أثناء سنوات التحرك الثوري ضد الشاه، وأظن أنه أفاد من تفسير سيد قطب في هذه المرحلة، وكتاب “المستقبل لهذا الدين” الذي سبقت الإشارة إليه، وكتاب “الإسلام ومشكلات الحضارة” الذي نشرت ترجمته تحت عنوان “حكم ضد الحضارة الغربيّة”.
هذا العنوان الأخير اللافت للترجمة يتصل بإشارتي السابقة إلى شيوع نقد الغرب في كتاب الخميني، ويوضح التقارب بين فكر سيد قطب وفكر الخميني وخامنئي من جهة، ويفترق عن فكر الإخوان المسلمين فيما بعد الذين بدوا متصالحين مع الغرب.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض الكتابات الصحفية خلطت بين ترجمة كتابي سيد قطب “المستقبل لهذا الدين” و”الإسلام ومشكلات الحضارة” (الذي نشر بعنوان “حكم ضد الحضارة الغربية”) فجعلتهما واحدًا. وكان خامنئي قد أشار في هامش ترجمته لكتاب “المستقبل لهذا الدين” إلى أن أحد مؤلفات سيد قطب القيّمة والمبتكرة كتاب “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، وأنه يعكف على ترجمته “وسيُقدم قريبًا إلى قراء الدراسات الإسلاميّة التحليلية”، ولكن الذي ترجمه -فيما بعد- هو أخوه الأكبر الذي سبق ذكره هنا.
سياقات الاقتباس عن سيد قطب في الكتابات الإيرانية المعاصرة
بفضل الترجمة الثورية، حضر سيد قطب في كثير من الكتابات الشيعية المعاصرة، ويمكن أن نلمس هذا الحضور في سياقات مختلفة، لاحظت -بالبحث- 3 سياقات كالآتي:
السياق الأول: كتب التفسير
فقد حظي كتاب “في ظلال القرآن” باهتمام وتفاعل في إيران كما نجد في ملحوظات مرتضى مطهري (ت: 1979) التي دوّنها على بعض الكتب ونشرت في كتاب باللغة الفارسية، وقد أشرت إلى جانب منها في المقال الماضي، وكما نجد في كتاب “نفحات القرآن” للمرجع الإيراني ناصر مكارم الشيرازي (ولد 1927)، وكتاب “مفاهيم القرآن” للمرجع الإيراني جعفر السبحاني (ولد 1930)، وفي التفسير الذي نشره إبراهيم العاملي، وغيرهم.
مما له دلالة هنا أن كتاب سيد قطب “في ظلال القرآن” كان من ضمن قائمة التفاسير التي اعتمد عليها ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره المسمى “الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل”. والشيرازي الذي سبق ذكره، كان له دور فعال في الثورة الإسلامية الإيرانية واعتقل من قبل نظام الشاه، وقد جمع تفسيره هذا -بمساعدة 10 آخرين- لخدمة القارئ المعاصر، يقول الشيرازي في المقدمة: “عالجنا فيه المسائل الحيوية المادية والمعنوية، وخاصة المسائل الاجتماعية، وسعينا إلى إشباعها بحثًا وتحليلاً، وخاصة ما يرتبط من قريب بحياة الفرد والمجتمع”.
وقد أوضح أن هذا النوع من الاهتمام جاء في سياق “الصحوة الإسلامية المعاصرة” التي أفرزت -بحسب الشيرازي- “زيادة الحاجة إلى تفسير القرآن” لـ”رفض كل المستوردات الفكرية”، بعد “فشل كل الأطروحات الوضعية الكافرة في تحقيق ما لوحت به من تقدمية وتحرر وسعادة” (1: 11-14)، وروح قطب تتبدى هنا بوضوح.
ثمة مراجع شيعية حاولت استثمار تفسير سيد قطب لبعض الآيات في بيان عقائدها الشيعية، كما وقع -مثلاً- من فاضل اللنكراني وشهاب الدين الإشراقي حيث استثمرا تفسير سيد قطب للآية التي تتحدث عن تطهير الله لأهل البيت، لإثبات أن سيد قطب يقول إن الإرادة الإلهية هنا إرادة تشريعية، وهي فكرة تدعم المرجعية التشريعية لأهل البيت حيث يوسع الشيعة من دائرة السنة لتشمل أقوال الأئمة المعصومين وأفعالهم أيضًا. وعبارة سيد قطب تقول: “في العبارة تلطّف ببيان علّة التكليف وغايته، تلطّف يشير بأنّ اللَّه سبحانه -يشعرهم بأنّه بذاته العليّة- يتولّى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم؛ وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت”.
السياق الثاني: التاريخ الإسلامي
فقد قاد التفكير الحركي الثوري لدى سيد قطب (وغيره من الحركيين) إلى اتخاذ موقف نقدي من التاريخ الإسلامي، بدءًا من الصحابة رضوان الله عليهم والخلافة الأموية، وذلك في سياق تنظير الحركيين عامة للنظام السياسي في الإسلام. وقد حظي هذا الجانب الذي يتقاطع فيه سيد قطب مع الفكر الشيعي باهتمام عدد من الإيرانيين.
يقرر سيد قطب -مثلاً- أن “من ينظر إلى الأمور بعين الإسلام ويستشعر الأمور بروح الإسلام” لا بد “أن يقرر أن تلك الثورة -على عثمان بن عفان- في عمومها كانت فورة من روح الإسلام”؛ ممن “أُشربت نفوسهم روح الدين”؛ لأن الحكم في زمن عثمان ابتعد عن روح الإسلام حيث تضخمت الثروات نتيجة سياسات عثمان وحدثت نقلة بعيدة جدًّا في تصور الناس للحياة والحكم، وأن عليّ بن أبي طالب “جاء ليرد التصور الإسلامي للحكم إلى نفوس الحكام ونفوس الناس”.
ولا يريد سيد قطب هنا أن يؤرخ للدولة الإسلامية، ولكنه يريد -بحسب قوله- أن يؤرخ لما يسميه “الروح الإسلامي في الحكم”. وله في هذا الموضوع عبارات حادة كقوله مثلاً: “لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس”، وقوله: “قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت وهُزمت، بل انطفأت.
فأَنْ يَهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها”. وكان سيد قطب واعيًا بهذا التطابق مع الرؤية الشيعية ولذلك استدرك بالقول: “وبعد، فلست شيعيًّا لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنظر إلى المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيًّا لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على معاوية وعمرو”.
التقط من سيد قطب بعضُ مترجميه أن نظام الحكم في عهد عثمان بن عفان شهد “تحولاً وانقلابًا كاملاً”، وأنه كان منحازًا لبني أمية و”مهّد لسلطنة معاوية” وتقديم علي بن أبي طالب عليه. فالسيد هادي خسروشاهي على سبيل المثال، استشهد -مع زميله علي أحمد ميانجي- بسيد قطب في “الهوامش التوضيحية” التي كتبها على كتاب “الشيعة: نص الحوار مع المستشرق كوربان”، والذي كتبه السيد محمد حسين الطباطبائي بالفارسية، ثم حظيت آراء سيد قطب هذه أيضًا باهتمام بعض المتشيعين من العرب.
صحوة البعد المذهبي الإيراني الذي كان ثانويًّا في مرحلة الإعداد للثورة، مع تراجع أطروحة التقريب بين المذاهب ربما دفع إلى إعادة النظر في فكر سيد قطب. وفي ظل هذا السياق النقدي، جرت ترجمة الكتاب الذي نشرته تحت عنوان “سيد قطب ومسألة التكفير والعنف” إلى الفارسية
يرجع هذا الحضور والتأثير لسيد قطب في الفكر الإيراني الثوري -في رأيي- إلى 3 عوامل على الأقل:
- الأول: أن السمة الثورية لفكر سيد قطب ومنهجه الحركي في قراءة النص القرآني -كما تم شرحه من قبل في مقالات سابقة- صادف حاجة ماسة وفراغًا لدى الإسلاميين الإيرانيين الثوريين، الأمر الذي شكّل مسألة مركزية في التقارب الذي حصل بين حركات الإسلام السياسي عمومًا وجعلها تتجاوز الأبعاد المذهبية حيث أفاد شيعة إيرانيون وعراقيون من مشروع الإسلام السياسي المتمثل في الإخوان المسلمين عمومًا، ومن فكر سيد قطب على وجه الخصوص.
- الثاني: أن العلاقة بفكر سيد قطب -فيما يبدو- كانت جزءًا من علاقة أوسع بين الإخوان المسلمين والفكر الثوري الشيعي الطامح إلى إحداث تغيير سياسي يلائم تطلعاته وقناعاته الدينية والمذهبية، ومن ثم كانت هذه العلاقة بين الإخوان والثورة الإسلامية الإيرانية التي بدأت بلقاء نواب صفوي -كما سبقت الإشارة في مقال الأسبوع الماضي- موضوعًا لبعض الكتب والدراسات، وبما أن مجال النقاش هنا هو سيد قطب تحديدًا لم أتعرض لها.
- الثالث: أن بعض آراء سيد قطب فيما يخص التاريخ الإسلامي المبكر والموقف النقدي من بعض الصحابة كعثمان ومعاوية رضي الله عنهما ربما شكّل أحد أوجه هذا التقارب الذي سهّل -فيما يبدو- تجاوز البعد المذهبي في الاستعانة بالفكر القطبي.
السياق الثالث: سياق مذهبي نقدي
وقد بالغ أحد الباحثين فوصف هذا السياق بأنه “محاولة للانقلاب على فكر سيد” قطب. ويبدو أن هذا الفكر بدأ يتعرض لبعض الانتقادات بعد ثورات الربيع العربي، كما ظهر جليًّا من خلال منتدى 15 فبراير/شباط 2015 الذي نُظم في المكتبة الوطنية بطهران، وهدف إلى إعادة قراءة فكر سيّد قطب ومراجعته، وقد مال هذا المؤتمر إلى اتخاذ موقف نقدي من سيد قطب، ولكنه في الآن نفسه انطوى على آراء تدافع عن سيد قطب؛ فقد أيّد خسروشاهي -أحد المترجمين المشار إليهم سابقًا- رؤى سيّد قطب حول العدالة الاجتماعية والحكومة الإسلامية، ونفى وجود أي نزعة معادية للشيعة في فكره.
ما يشير إلى أن كلام خسروشاهي يأتي في سياق الرد على بعض الانتقادات التي وُجهت لسيد قطب على أساس شيعي، حيث وصفت أفكاره بأنها “سنية” وأن ترجمة أعماله ونشرها في إيران عمل يستحق النقد، على أن ثمة بعض المعممين -مثل أبو فضل رضوي أردكاني وسيد إبراهيم مولاني- كانت لهم بعض الانتقادات على أفكار سيد قطب كموقفه النقدي من الفقهاء.
في رأيي، يرجع هذا التوجه النقدي الجديد إلى عدة عوامل، منها بعض العوامل السابق ذكرها؛ فالحاجة والفراغ اللذان دفعا إلى الاستعانة بفكر سيد قطب لم يعودا قائمين اليوم، بالإضافة إلى التطورات التي شهدها ما سمي بالربيع العربي، ثم بروز المركزية الإيرانية في ظل سيطرتها على بعض دول المنطقة كلبنان والعراق وسوريا، مع الفشل المتلاحق للإخوان المسلمين في تحقيق مشروعهم، في حين أن الإيرانيين طوروا نظرية “ولاية الفقيه” واستمروا لعقود طوروا فيها تجربة سياسية من موقع الدولة والسلطة.
يضاف إلى ذلك صحوة البعد المذهبي الإيراني الذي كان ثانويًّا في مرحلة الإعداد للثورة، مع تراجع أطروحة التقريب بين المذاهب، فكل ذلك ربما دفع إلى إعادة النظر في فكر سيد قطب. وفي ظل هذا السياق النقدي، جرت -فيما يبدو- ترجمة الكتاب الذي نشرته تحت عنوان “سيد قطب ومسألة التكفير والعنف” إلى الفارسية؛ مما يدل على أن سيد قطب ما يزال حاضرًا في السياق الإيراني. والله أعلم.