يمكن استعارة اسم الفيلم الوثائقى (اليوم الذي التقيت فيه إل تشابو – THE DAY I MET EL CHAPO) مع تعديل طفيف ليكون عنوانا لهذا المقال، فالمفارقة التي جمعت نجمة السينما المكسيكية الأشهر (كيت دي كاستيو) بزعيم كارتل المخدرات الأبرز في العالم (خواكين غوزمان الشهير بـ إل تشابو)، ووثقتها في فيلم أنتج عام 2017، تشبه إلى حد كبير تلك المفارقة التي جمعتني بالرئيس النيجري (محمد بازوم) قبل الانقلاب العسكري الذي خرج به من القصر الرئاسي إلى محبسه في العاصمة نيامي.
اللقاء جرى في الثالث من مايو 2023، وكنت ضمن فريق مهتم بالقضايا الأفريقية ضم حقوقيين وخبراء دوليين في مجالات إنسانية وسياسية وإعلامية زار النيجر مدة ثلاثة أيام، وجرى اللقاء عصرا في مكتبه الرئاسي حيث كان يتأهب للسفر بعد يومين إلى إنجلترا لحضور مراسم تتويج الملك تشارلز الثالث.
القضية السودانية والحرب الدائرة في الخرطوم كانت حاضرة في الحديث معه، ناقشناه في حقيقة دور بلاده فيها، ومزاعم تورطه شخصيا في دعم التمرد، وكيف ينظر إلى هذه الحرب، والاتهامات التي طالته وحكومته بإلقاء المزيد من الوقود على نيرانها بعد انتشار مقاطع مصورة في مقاطعة ديفا شرقي النيجر لأشخاص يحشدون أبناء القبائل العربية للقتال مع متمردي الدعم السريع في السودان.
تحدث بازوم في الجلسة عن لقائه الأول بمحمد حمدان دقلو عندما حضر الأخير حفل تنصيبه في الأول من أبريل/نيسان عام 2021 والمفارقة أن الدعوة كانت موجهة في الأساس للفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الذي حولها إلى نائبه آنذاك محمد حمدان دقلو. وتوسع معنا في الحديث عن القضية السودانية بأبعادها المختلفة وعن الأوضاع في دول الساحل.
40 عاما من السياسة
لكن أول ما يلفت الانتباه إلى أستاذ الفلسفة السابق، الحاصل على الماجستير من (جامعة الشيخ أنتا ديوب بالسنغال) وهي أقدم جامعة في غرب أفريقيا، هو هدوؤه ، وقدرته على الإنصات، وَوُلوجه مباشرة في موضوعات النقاش، والانطباع الذي يعطيه لمحاوره أنه إزاء رجل يفكر بعمق وينظر بروية، واثق من نفسه بوضوح، ويبني مستقبله في السلطة على نظرة واقعية ذات بعد فلسفي ترى أن المكونات الصغيرة في مجتمعات ذات أغلبية ضخمة يمكنها أن تصعد بعدة روافع ليس من بينها الرافعة الاجتماعية، ولذلك فهو يعول على السياسة والكيان الحزبي ونجاعة الديمقراطية الأفريقية الصاعدة التي تعض بأسنان لبنية.
عاد بازوم إلى بلاده يافعا بعد إكمال دراسته الجامعية، فصار معلماً في المدارس الثانوية، ثم أصبح نقابياً نشطا، ثم انخرط في السياسة متنقلاً بين عدة أحزاب منذ عام 1993، ووجد طريقه إلى البرلمان عقب نهاية العهد العسكري في 1995، وعين وزيرا للخارجية في نفس العام في حكومة رئيس الوزراء الأسبق (هما محمدو)، ثم قضى في المعتقل عامي 1996- 1997 بعد انقلاب عسكري جديد، مارس ضده -وهو ورفيقه الرئيس السابق محمد يوسفو- معارضة نشطة وفاعلة.
أسس الحزب النيجري للديمقراطية والاشتراكية (PNDS) مع الرئيس السابق محمد يوسفو، وصار نائب الأمين العام للحزب ودخل البرلمان مرة أخرى في 2003 واختير نائبا لرئيسه، وتفرغ بعد ذلك لبناء الحزب حتى وصل محمد يوسفو إلى السلطة فعينه وزيرا للخارجية في الفترة من 2011- 2016، ثم وزيرا للشؤون الداخلية من 2016- 2019، وأصبح في تلك المرحلة أمينا عاما للحزب الحاكم (PNDS).
وفي نهاية 2020 أصبح مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية خلفا للرئيس يوسفو الذي استنفد ولايتيه الرئاسيتين، وفي الأول من أبريل 2021 أدى اليمين الدستورية رئيسا للنيجر ولم يقض إلا عامين في منصبه حتى أطاح به ذلك الانقلاب العسكري الذي نفذه حرسه الرئاسي قبل أيام.
لذلك، هو رجل سياسة محنك وصاحب تجربة طويلة امتدت أربعة عقود جعلته ملما بتفاصيل دقيقة عن المنطقة وما يجري فيها.
ينحدر بازوم من “الميايسة” وهي فخذ من قبيلة “أولاد سليمان” الموزعة بين ليبيا والنيجر، ولها امتدادات في تشاد والجزائر، وهي تحمل في السودان وتشاد مسمى “قبيلة الرزيقات” والعربية هي لغته الأولى ويجيد إلى جانبها الفرنسية والإنجليزية والهوساوية ولغات محلية أخرى.
حين تقترب منه، لن تجد صعوبة في ملاحظة أوجه شبه في طريقته في التفكير والتعبير عن آرائه بصراحة، ومزاجه العام، وبين زعيمين أفريقيين هما الليبي الراحل معمر القذافي والإريتري أسياس أفورقي، فرغم أن سمته العام هو الهدوء وقلة الكلام والإنصات لمن يحدثه، إلا أنه سريع الردّ، صريح في التعبير عن رأيه.
بازوم قال إن قضية المرتزقة العابرين إلى السودان تحتاج تضافر الجهود بين دول غرب أفريقيا ووسطها، فعندما يعود هؤلاء إلى بلادهم ستعم الفوضى وينتشر السلاح، وسيصبح مرتزقة “الدعم السريع” العابرين للحدود هم التهديد الأخطر على كامل المنطقة.
بين بازوم وحميدتي
في يوم اللقاء بدا وهو يرتدي الزي القومي النيجري أشبه ما يكون بالقذافي تجلياته الأفريقية، وفيما يتصل بالوضع في السودان، لخص موقفه فيما يلي:
- نفى بشدة علاقة بلاده بما يجري في السودان ووجود دعم رسمي لتمرد الدعم السريع، وقال إنه وجه بالقبض على أولئك الذين ظهروا في التسجيلات المصورة منادين بمناصرة تمرد الخرطوم، وأن يواجهوا محاكمة إن كانوا مواطنين، أو يرحلوا فورا إن كانوا سودانيين أو من جنسيات أخرى، وأشار في هذا السياق إلى قضية المحاميد المهاجرين من تشاد منذ عام 1980، وهم ضمن سكان مقاطعة ديفا التي التقطت فيها تلك المقاطع المصورة.
- وأكد أن بلاده لا تستطيع السيطرة على حدودها الطويلة، وخاصة في مناطق الشمال الشاسعة التي تمثل عمق الصحراء الكبرى، فالإمكانات لا تكفي لتتبع الطرق والممرات ومراقبة الحدود مع الجزائر ومالي وليبيا وتشاد للحد من مرور المرتزقة، وأقر بأن هناك سماسرة وتجار حروب يقومون بالتجنيد لصالح مجموعات المرتزقة ولا سيما في مواقع التعدين الأهلي المنتشرة في بلدان المنطقة، ومنها النيجر.
- اعتبر تمرد حميدتي “غير مقبول على الإطلاق”، وغير قابل للنجاح بحكم معرفته الدقيقة بالسودان الذي زاره عدة مرات في عهد الرئيس البشير، وقال إن بعض دول العربية هي التي زرعت الفتنة ودمرت ليبيا، وتريد الآن تدمير السودان عبر دعم هذا التمرد. وقال إن السودان بلد عظيم يمثل أفريقيا كلها، وجيشه هو ممثل الشرعية الوحيدة فيه.
- وقال إنه شعر، في اللقاء الذي جمعه بحميدتي في حفل تنصيبه، أن المسافة واسعة بين رجل الدولة وما عليه ضيفه الذي يقود مجموعة عسكرية مقاتلة وجدت نفسها في السلطة دون إلمام كاف بفنون الحكم وأصوله. (هنا لابد من ذكر حقيقة أن دعوة حميدتي لحفل التنصيب تمت عبر قناة غير رسمية، وكانت الرئاسة النيجرية قد وجهت الدعوة لرئيس مجلس السيادة البرهان لحضور حفل التنصيب، فقرر تكليف الفريق إبراهيم جابر عضو المجلس بالحضور نيابة عنه، لكن جهات غير رسمية أشارت بدعوة حميدتي لاعتبارات مناطقية وقبلية، ووجهت إليه الدعوة عبر القنصل العام بسفارة النيجر في الخرطوم، وأحدث ذلك تضاربا). وأكد بازوم أن حضور حميدتي حفل تنصيبه لا يعني ولا يبرر على الإطلاق دعمه في التمرد غير المقبول الذي يقوم به.
- وشدد على أن قضية المرتزقة العابرين إلى السودان تحتاج تضافر الجهود والتنسيق بين دول غرب إفريقيا ووسطها، لمنع تمدد الحرب السودانية إلى كل دول جنوب الصحراء، فعندما يعود هؤلاء المرتزقة إلى بلادهم ستعم الفوضى وينتشر السلاح، وسيصبح مرتزقة “الدعم السريع” العابرين للحدود هم التهديد الأخطر على كامل المنطقة الذي يجب التصدي له.
- نفى وجود عناصر ” فاغنر” الروسية في بلاده، لكنه قال إنها موجودة في دول أخرى في غرب أفريقيا ووسطها، ولذلك يجب أن يكون هناك تنسيق استخباراتي بين دول غرب ووسط القارة لمحاصرة نشاط “فاغنر” وعملائها، بالإضافة إلى مخاطر تنظيمات أخرى كـ”بوكو حرام”.
ثمن المواقف
وختاماً….
يشيع في السودان، أن محمد بازوم وقف مع تمرد حميدتي، لكن الحقيقة غير ذلك، فالرجل شديد الاعتداد بتأهيله العلمي وتجربته وثقافته وخبرته السياسية، ولا يجد لغة ولا قواسم مشتركة تجمعه بقائد مليشيا، وبالنسبة إليه لا يشكل الانتماء القبلي أو العرقي معيارا مهما لتحديد سياساته وتحالفاته وعلاقاته.
ولكن كثيرين مع ذلك يرون أن الأزمة في النيجر منقطعة الصلة بما يجري في السودان، فالصراع هناك هو “داخلي” بين أركان السلطة، وربما داخل الحزب الحاكم المسيطر على البرلمان والدولة، ودفع بازوم ثمن محاولته تغيير قواعد اللعبة في بلاده، وصناعة واقع سياسي جديد يشكله بإجراءاته وتقديراته وقراراته وبزرع رجاله المقربين في مفاصل الدولة، وذلك في سبيل تعزيز سلطته وتطلعا لفترة رئاسية ثانية.
ولكن العامل الخارجي لا يمكن استبعاده تماما، فربما يكون الرجل يدفع الآن ثمن موقفه من أطراف إقليمية والغة في الأزمات الإقليمية، وهي أطراف تمتلك المال لشراء الولاءات، وقد حاولت تطويعه لخدمة أغراضها لكنها وجدت فيه عائقاً عصيا على الترويض.