ساقتني قدماي قبل أسبوعين إلى مكتبة الكونغرس الأميركي، والتي تبعد مسافة ميلين فقط من مكتبي وسط العاصمة واشنطن. ذهبت للمكتبة من أجل تجديد بطاقة الاشتراك بها والتي انتهت صلاحيتها قبل 4 أعوام، حيث كنت قد اشتركت بالمكتبة صيف عام 2017 لمدة عامين، ولم أجدد الاشتراك منذ صيف 2019 نتيجة للسفر والانشغالات، وكذلك من أجل البحث عن بعض الوثائق والمنشورات المتعلقة بمصر خلال فترة الخمسينيات والستينيات، وذلك لاستكمال مشروع بحثي أعمل عليه منذ أعوام وربما يرى النور قريبا بحول الله.
سألتها عن أرشيف جريدتي الأهرام والجمهورية خلال الخمسينيات والستينيات، فردت بالإيجاب بأنه موجود، ليس كنسخ مطبوعة، ولكن على أشرطة “الميكروفيلم”، فطلبت الاطلاع عليها
صعدت للطابق الثاني بمبنى “توماس جيفرسون”، وهو المبنى الأساسي للمكتبة التي تتكون من 3 مبان يحمل كل منها اسم أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، فهناك مبني آخر باسم “جون آدامز” (1735-1826) الرئيس الثاني، ومبنى ثالث باسم الرئيس الرابع “جيمس ماديسون” (1751-1836)، وذلك حيث يقبع القسم الخاص بدراسات أفريقيا والشرق الأوسط حيث توجد كافة بلدان المنطقة، وهو قسم يحوي كنوزاً معرفية من كتب ووثائق ومخطوطات وأرشيف للصحف العربية والأفريقية.. إلخ.
منذ دخولي للقاعة شعرت بجلال المكان، وذلك ربما لما يحويه من علم ومعرفة تفرض علينا، نحن جماعة الباحثين، شعوراً تلقائيا بالهيبة والاحترام الممزوج بالسعادة كمن عثر على كنز مفقود، وربما للهدوء الشديد الذي يلف المكان والذي لا يقطعه سوى وقع أقدام العاملين بالقسم الذين يساعدون الباحثين في الحصول على مرادهم من داخل الغرف المكدّسة بالمواد العلمية، أو صوت شريط يصدر من آلة “الميكروفيلم” كانت تستخدمها سيدة، عرفت لاحقاً أنها من أصول صينية وتعمل أستاذة في قسم اللغات والأدب بجامعة “جورج مايسون”، وتتحدث العربية بطلاقة وبلهجة مصرية واضحة، وربما أعود لاحقا للحديث عنها وعن حكايتها.
سجلت اسمي في دفتر الحضور على مدخل القاعة الهادئة، وكنت الباحث رقم 12 تقريبا الذي سجّل اسمه في كشف الحاضرين ذلك اليوم، بعدها سألت الموظف المسؤول، وهو شاب عشريني ذو ملامح شرقية عرفت منه لاحقاً أنه من أصول إيرانية، ولا يزال يدرس بقسم المكتبات بجامعة ميرلاند المرموقة، والتي تبعد حوالي 10 أميال عن مكتبة الكونغرس، فداعبته بالقول “الرجل المناسب في المكان المناسب”، وسألته عن بعض الكتب والوثائق والصحف التي جئت بحثا عنها، فأشار عليّ الانتظار قليلاً، وقام بطرقعة أصابعه على منصة مفاتيح لحاسوب أمامه.
رد بأن بعض ما أبحث عنه من كتب ووثائق موجود بالمكتبة. وبعد أن عرف أنني أتحدث العربية، نادى على زميلة له كي تساعدني في الحصول على هذه الكتب والوثائق. فجاءت الزميلة والتي عرفتني باسمها ونفسها باللغة العربية، وعرفت لاحقاً أنها من أصول خليجية، وتعمل بمكتبة الكونغرس منذ عقدين تقريباً، وكانت في قمة اللطف والحرص على المساعدة.
سألتها عن أرشيف جريدتي الأهرام والجمهورية المصريتين خلال الخمسينيات والستينيات، فردت بالإيجاب بأنه موجود، ليس كنسخ مطبوعة، ولكن على أشرطة “الميكروفيلم”، فطلبت الاطلاع عليها. ذهبت وعادت بعد دقائق، تدفع أمامها عربة أشبه بعربات التسوق، تحمل عدداً من الصناديق البيضاء المستطيلة، يحمل كل منها بداخله عدداً من العلب الصغيرة المؤرخة بالسنين والشهور، ويقبع بداخل كل علبة شريط “ميكروفيلم”. ذهبنا إلى أحد أجهزة الميكروفيلم بالقاعة والمتصلة بشاشة حاسوب، ووضعت الشريط، وشرحت كيف يعمل، وكيف يمكنني الحصول على نسخة رقمية من الصفحات المطلوبة، وتركتني أخوض غمار التجربة بنفسي.
بدأت أقلب صفحات أعداد جريدة الأهرام الصادرة أوائل 1953، والتي عادت بالزمن للوراء حوالي 70 عاماً، ولواحدة من أشد الفترات التي مرت على مصر صخباً وزخما، حيث شهدت أحداثا ملتهبة بعد شهور من وقوع انقلاب يوليو/تموز 1952 الذي أطاح فيه مجموعة من ضباط الجيش بالملك والنظام الملكي، وأنشؤوا نظاماً جمهورياً جديداً، سيتخذ لاحقاً إجراءات ثورية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
انتقلت بعد ذلك للتقليب في صفحات من جريدة الجمهورية أواخر العام التالي، وتحديدا بعد حادث المنشية الذي اتهم فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتياله في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1954. ويظهر مانشيت الجريدة في اليوم التالي للحادث بالخط الأحمر يقول (8 رصاصات طائشة.. يطلقها إخواني على الرئيس في الإسكندرية ولا يصيبه). هكذا قفزت الجريدة إلى توجيه الاتهام لجماعة الإخوان حتى قبل بدء التحقيقات في الموضوع. وهي مسألة لا تزال حاضرة في تغطية الصحف المصرية لأخبار جماعة الإخوان التي تراها السلطة وإعلامها مصدر الشرور التي حلّت، ولا تزال.
وبعد ذلك انتقلت لمطالعة مجلة الهلال العريقة، وقد أذهلني عدد المجلدات التي تحويها مكتبة الكونغرس للمجلة، والتي تجاوزت 70 مجلداً تحوي بداخلها كافة أعداد المجلة منذ العدد الأول الذي صدر في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1892.
وبين الصفحات الصفراء للمجلة ألمح أسماء المشاهير من الكتاب والأدباء والمثقفين والسياسيين أمثال عباس محمود العقاد وطه حسين وفكري أباظة وحسين أحمد أمين وعبد الرحمن الرافعي ومحمد شفيق غربال وعلى عبد الرازق ومحمد فريد وجدي وزكي طليمات وطلعت باشا حرب وأحمد ماهر باشا وحافظ عفيفي باشا وطلعت رضوان والرئيس الأسبق محمد نجيب والملك سعود بن عبد العزيز والشيوخ أمثال الشيخ حسنين مخلوف وأحمد حسن الباقوري وغيرهم الكثير.
كان صديق عزيز يشتغل على بحث الدكتوراه حول نفس الفترة، وقد لفت نظري إلى وجود كافة مجلدات “مجلة الأزهر” التي صدر أول أعدادها عام 1931. وهو ما أنوي الاطلاع عليه خلال زياراتي القادمة للمكتبة بحول الله.