تتعدد الروايات التي تقدم لما يمكن أن تكون عليه ملامح الشرق الأوسط في المستقبل. يكاد يكون هناك إجماع بين أهل العلم في المنطقة وخارجها أن شرقا أوسط جديدا يتشكل، ولكن كل يراه وفق منظوره الخاص الذي يحدده الموقع الذي يشغله، وإدراكه للمصالح التي يمثلها، أو التخصص الذي ينتمي إليه.
تقسيم التاريخ إلى فترات مختلفة بناء على محدد أو أكثر وتطور معين هو من بدائع صنع خيال المؤرخين والباحثين. ورغم تعدد الروايات وتباينها يلاحظ عموما غياب الرواية التي يمكن أن تعبر عن قطاعات معتبرة في المجتمع، كالشباب مثلا، وهم يمثلون في الشريحة العمرية بين 10 إلى 24 عاما حوالي ثلث المجتمع العربي (29%). وهم يعيشون ظروفا تاريخية صعبة حيث إن ثلث الراغبين في العمل منهم “عاطلون”، ونصفهم يتطلع إلى الهجرة، وفق استطلاع صدر منذ أيام قليلة.
محددات ستة
في أحدث كتاب عن الشرق الأوسط المعاصر يقدم لنا جيمس إل. جيلفن -أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة كاليفورنيا- 6 خصائص للشرق الأوسط الجديد، وهي كما جاءت في مقدمة الكتاب الذي حرره بالاشتراك مع الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي (2011-2014):
أولا: تداعيات انتفاضات 2010-2011
يقول المؤرخ: “رغم أنه من السابق لأوانه معرفة آثارها على المدى الطويل، فإن الحكومات في جميع أنحاء المنطقة -التي كانت قادرة على الصمود في وجه الاضطرابات- أصبحت أكثر اعتمادا على مزيج من القوة الغاشمة وتماسك النخبة والدعم الخارجي والرشوة، للحفاظ على نفسها”.
ويستدرك: “لن يجلب أي من الحلول التي توصلت إليها هذه الأنظمة راحة طويلة الأجل لأزمة شرعيتها”.
نحن -إذن- إزاء أزمة شرعية للنظم القائمة، ربما تجد جذرها الأعمق -كما كتبت في مقالات سابقة– في أنها تحاول أن تستجيب وفق المنطق السلطوي القديم لتحديات الجمهور الذي زادت مطالبه وارتفع سقف توقعاته، وامتلك أدوات متعددة جعلته أكثر قوة وتمكنا. تستجيب الحكومات العربية دون تجديد حقيقي في العقود الاجتماعية غير العادلة التي انحازت فيها لفئات اجتماعية بعينها على حساب أخرى.
ثانيا: تفشي الطائفية
انتشرت الطائفية نتيجة ما جرى في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وما عانته سوريا بعد انتفاضة 2011.
ويري جيلفن أن “ما يجعل الانتشار الحالي للطائفية في الشرق الأوسط أكثر مأساوية هو أنها بمجرد أن تتجذر، فإنها لا تختفي ببساطة مع مرور الوقت. يفصل الناس أنفسهم بين انتمائهم الخاص من أجل الأمان أو الراحة، كما حدث في العراق وسوريا، أو تخصص الدول التمثيل والحقوق حسب الانتماء الديني، كما في لبنان”.
يمكن أن تكون الفردية والتنوع بأشكالهما أساسا لإعادة استكشاف مفهوم “المواطنة الحاضنة للتنوع” باعتباره القوة المحركة الأساسية للتنمية المجتمعية، وسبيلاً غير مباشر في تضميد جروح النزاعات المرتبطة بالهوية. بينما من المرجح أن تواصل الهويات الجماعية وهياكل الاتصالات القيام بدور هائل، إلا أن قدراتها الاستقطابية داخل المجتمعات المنقسمة قد تضعف، إذا حدث تركيز جديد على الحريات والحقوق الفردية.
الهويات الآن يجري تعريفها ليس في أطر جماعية كلية شاملة، وإنما وفق منطق الحقوق والحريات الذي عادة ما يكتسب معنى فرديا. النوبي في مصر والأمازيغي في شمال أفريقيا يبحثان عن الحقوق والحريات في تعبيرهما عن الانتماء لهويتهما. أرضية الحريات والحقوق يمكن أن تساعد على وجود قواسم مشتركة مع آخرين لا ينتمون إلى الهوية نفسها، فحقوق المرأة والحركات النسوية تتقاطع مطالبها في الحقوق والحريات مع تطلعات الأمازيغ والنوبيين.
في ميادين الانتفاضات العربية شهدنا بداية تشكل لهذه الأرضيات المشتركة، حيث كانت ساحات العراق ولبنان والجزائر والسودان ومن قبلهم مصر والمغرب وسوريا واليمن تضم روافد متعددة للاحتجاج. ما كان يجمعها جميعا تطلع للكرامة الإنسانية والعدالة والحرية.
وهكذا، فإن الانتفاضات إذا كانت قد أطلقت للطائفية العنان، فإنها في الوقت نفسه دشنت حراكا نحو المواطنة الحاضنة للتنوع التي تتأسس على الحقوق والحريات لا الانتماء الطائفي.
ثالثا: التخلي عن “الويستفالية”
والمقصود بـ “الويستفالية” هي مبادئ احترام سيادة الدولة وعدم التدخل. ولكن هذا التخلي ليس سمة جديدة، فالدول الكبيرة والصغيرة، من داخل المنطقة وخارجها، فعلت ذلك باستمرار، منذ نهايات القرن الـ18 (غزو نابليون لمصر 1798) والمنطقة تشهد تدخلا من القوى العظمى بما يمكن معه القول إن شيئا لم يتغير منذ ذلك التاريخ. حرب اليمن -منتصف الستينيات- والوحدة السورية المصرية عام 1958 مجرد أمثلة على تدخل القوى الإقليمية في شؤون الدول الأخرى.
هذه هي الرواية التي يجري الترويج لها، لكن ماذا عن الروايات الأخرى؟
“يمكن القول إن الكثير مما جاء لتجديد المنطقة بعد عام 2011 ليس أكثر من استمرار لظواهر كانت موجودة بالفعل”، على حد قول جيمس إل. جيلفن.
لا تزال الدول العربية تسعى إلى الريع كما كانت من قبل. لا تزال المنطقة جزءًا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي الذي يعطي الصدارة للنيوليبرالية، بعد أن كان في القرنين الـ19 والـ20 يعطي للرأسمالية التجارية والصناعية الصدارة. لا تزال الدول العربية قاصرة في مجال حقوق الإنسان والمساءلة والشفافية وسيادة القانون، ولا يزال السكان يعانون من تدني الأمن البشري في كثير من المجالات، من التعليم والرعاية الصحية إلى الحكم الرشيد إلى الحصول على إمدادات كافية من الغذاء والمياه.
وبغض النظر عما إذا كانت عبارة “الشرق الأوسط الجديد” تشير إلى شيء جديد ومميز تماما أو إلى تبلور ديناميكيات سابقة، فإن ما يجب أن نتابعه ليس مشاريع الحزام والطريق الصينية، ولا انسحاب أميركا من المنطقة أو إعادة تموضعها، ولا تحرر النظام الدولي من القطب الواحد، ولكن تأثير ذلك كله على قطاعات اجتماعية محددة.
هل سيجد الشباب الذين تضخمت أعدادهم في المنطقة وظيفة في مشاريع طريق الحرير تضمن لهم حياة كريمة، أم نستبدل رأسمالية صينية تقودها الدولة، برأسمالية السوق التي تقودها الولايات المتحدة؟
رابعا: البعد الديموغرافي
وهنا يأتي الكلام المكرر عن الزيادة السكانية الهائلة، وعجز الموارد، مع تغيرات مناخية، وتضخم عدد الشباب وتطلعهم للعمل والزواج.
العامل الديموغرافي محدد مهم لمستقبل الشرق الأوسط، ولكن ما لم يتم تغيير مناهج النظر إليه فإننا لن نتقدم كثيرا في النقاش.
في مجتمعات كثيرة في المنطقة، انسحبت الدولة عن أداء كثير من المهام التي كانت تضطلع بها. ومن ملأ هذا الفراغ في الاقتصاد والوظائف وبناء المساكن هو المجتمع. تحويلات العمالة المهاجرة، الوظائف التي ينشئها الاقتصاد غير الرسمي، حركة الإسكان غير الرسمي، العمل الأهلي، مجرد أمثلة لما يمكن أن يقوم به الناس.
نظرة السلطة للسكان كعبء، وانتظار المواطنين أن تعود الدولة لتقوم بما سبق من وظائف يجب أن ينتهي تماما، وهذا ما يحتاج من الاثنين إلى رواية أخرى.
خامسا: غياب القوة المهيمنة
والمقصود في الكتاب بالقوة المهيمنة هي تلك التي تلعب دور عامل الاستقرار الإقليمي، وتخفف من حدة الصراعات في المنطقة، وهو ما يميز الفترة الحالية عن الفترة التي سبقتها.
ولكن هل يمكن أن نتساءل عن معنى الاستقرار وملامحه؟ وهل يمكن أن تتوفر أرضيات مشتركة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين والمحليين في بناء مقوماته؟ هذه الاسئلة ليست هوامش على متن الحديث عن القوة المهيمنة، بل هي المتن الأصلي.
كتبت سابقا على موقع الجزيرة نت أن هناك طلبا متزايدا على الاستقرار من الأطراف الفاعلة كافة في المنطقة العربية ورغبة في الاستثمار فيها، إلا أن التنافس فيما بينها حول تحديد مضمون ذلك الاستقرار ومحاولة فرضه، أحد الأسباب الأساسية وراء ما بات يعرف في دراسات المنطقة “بالاضطراب العربي”.
الكامن وراء البحث عن قوة مهيمنة إمبريالية -كما في الإمبراطورية البريطانية من قبل أو الأميركية الآن- أو قوة إقليمية من دول المنطقة أو تحالف بين بعض دول الإقليم، أو هجين من هذا وذاك، أنه يتعامل مع المنطقة باعتبارها خواء لا تملك فاعلية ذاتية وقوى داخلية يجب أن تؤخذ تطلعاتها في الاعتبار.
ما طرحته سابقا وما أقدمه الآن أن استقرار المنطقة على المدى الطويل لن يتحقق إلا في المساحة التي تتقاطع فيها التعريفات المتعددة لمفهوم الاستقرار كما يقدمه الفاعلون المختلفون. نقطة البداية هي التوافق الذي يمكن أن يتحقق وطنيا وبين دول المنطقة أولا حول المفهوم، ثم يجري بعد ذلك استدعاء القوى الدولية لصيانته وضمانه.
الاتفاق السعودي الإيراني الذي يشهد تعثرات الآن، نموذج دال على ما نقول. أدرك الطرفان أنهما لاعتبارات تتعلق بتكلفة التنافس أو الصراع الذي لم يكن فيه منتصر ولا مهزوم، وأن تهيئة الأوضاع لنمو اقتصادي أمر مطلوب. أدرك الطرفان ذلك، فكانت المساندة الدولية من إحدى القوى العالمية الكبرى التي لها مصالح اقتصادية معتبرة (الصين)، فرعت هذا الاتفاق.
سيقوى هذا النموذج من خلال تحقيق الدمج بينه وبين تطلعات ومصالح الفئات الاجتماعية فيه، مثل رجال الأعمال وشرائح المجتمع الراغبة في الاستقرار لتحقيق نمو اقتصادي مستدام تعود نتائجه على شرائح أوسع.
أي تعثر في هذا النموذج أو تباطؤ سيكون نتيجته دخول أطراف دولية أو إقليمية ذات مصالح متعارضة مع ما تم التوافق عليه، فتسعى إلى تخريبه.
السمة السادسة: تناقص أهمية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
ولكن جيمس إل. جيلفن يتساءل: عند من تناقصت هذه الأهمية؟
تناقصت عند الغرب، ولكن الصين وروسيا تستثمران فيه بعض مواردهما الآن.
وتناقصت عند النظام الرسمي العربي، لكن جزءا معتبرا من شعوب المنطقة ينتهز أية فرصة للتعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين ورفضه للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
التناقص في الأهمية يغطي على دخول أجيال جديدة من الشباب والشابات إلى ساحة المقاومة وبأشكال جديدة، بالإضافة إلى تكامل هذه الساحات وترابطها.
التناقص في الأهمية يغفل تغيرات المجتمع الإسرائيلي وما بات يشهده من تصدعات تسمح بتحركات جديدة على الساحة الفلسطينية -إن أحسن استثمارها- كما لا يأخذ في اعتباره الأجيال الجديدة في الحزب الديمقراطي الأميركي والشباب اليهودي في الولايات المتحدة الذين تتصاعد مناهضتهم للسياسات الإسرائيلية ويقل دعمهم لها.
يستدرك مؤرخنا على نفسه حين ينهي مقدمة الكتاب بقوله: “مع كل هذا، يواجه الشرق الأوسط عددا لا يحصى من المشاكل المزمنة التي قد تغير مسار تاريخه إلى الأبد. إن الأمن البشري في المنطقة ضعيف، وقد أصبح ضعيفا بسبب جائحة كوفيد-19. تعاني المنطقة، أو ستشهد قريبًا، نموًا سكانيًا يجهد الموارد المتاحة وقدرات الدولة، تغير المناخ الذي تسبب بالفعل في التصحر وارتفاع مستوى المحيطات، والتي تهدد بحد ذاتها بجلب الفيضانات إلى 43 منطقة ساحلية مكتظة بالسكان، ارتفاع معدلات الفقر إلى جانب ارتفاع مستويات التفاوت في الدخل، الفساد وانعدام الشفافية، مع قصور في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتراجع التصنيع وضعف الأداء الاقتصادي، وعدم المشاركة في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى النظام الأبوي الراسخ الذي يعتبره الاقتصاديون الكتلة الأولى للتنمية الاقتصادية، والأعداد الكبيرة من اللاجئين وأكبر عدد من النازحين داخليًا في أي منطقة في العالم، والقائمة طويلة”.
ونتساءل: هل الشرق الأوسط الجديد هنا أم هناك في المحددات الستة؟
أليس الأولى أن ننظر إلى تأثير المحددات على هذه العوامل فنستحضر من خلالها الروايات التي يجري تغييبها طوعا أو كرها؟ لا سيما أنه من غير المتوقع أن تتعامل الحكومات في المنطقة بشكل مناسب مع أي من العلل العميقة الجذور التي تواجه شعوبها.