العلاقات التي تتمتع بها تركيا مع طرفي الحرب الروسية الأوكرانية كانت تؤهلها قبل غيرها للقيام بمبادرة مبكرة لإيقاف الحرب وإحلال السلام، وأعتقد أنه قد حان الوقت لتقوم أنقرة بمبادرتها الخاصة لوضع حد لهذه الحرب المتصاعدة بشكل مرعب، والتي بدأت نطاقاتها تتسع تدريجيا إلى داخل الأراضي الروسية وصولا إلى العاصمة موسكو.
تعتبر القمة المرتقبة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين فرصة مناسبة ليقوم الرئيس أردوغان برفع سقف موضوعات اللقاء، ليكون على رأسها إيقاف الحرب وإحلال السلام، وعرض بنود المبادرة التركية على الرئيس بوتين لأخذ الموافقة المبدئية للتحرك مع أطراف الأزمة.
لكن، لماذا تركيا؟ وما مصلحتها من وراء ذلك؟ ولماذا فشلت المبادرات السابقة؟ وما البنود التي ستقوم عليها هذه المبادرة التركية لتجنب الفشل الذي وقعت فيه المبادرات السابقة؟ وما فرص النجاح المتوفرة لها؟ وما المعوقات والتحديات التي تواجهها؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
الفرصة ما زالت قائمة أمام تركيا لتقوم بدورها التاريخي في إيقاف الحرب وحل الأزمة الأوكرانية، والتي يتوقع لها الساسة والخبراء أن تستمر لعدة سنوات، وقد تتصاعد لتصبح وبالا على البشرية جمعاء، وربما ينبغي على الرئيس أردوغان أكثر من أي وقت مضى أن يعيد ترتيب الأولويات ويقود تركيا للقيام بهذا الدور
لماذا تركيا؟ وما مصلحتها؟
تعتبر تركيا من أوائل الدول المرشحة للتوسط من أجل إنهاء الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وقد كان من المستغرب أن تتأخر أنقرة حتى هذا الوقت دون أن تقوم بدور مباشر في هذا الصدد يتجاوز حدود أعمال ثانوية -مثل اتفاقية تأمين تصدير الحبوب الأوكرانية- بغض النظر عن الدوافع التركية السياسية أو الاقتصادية الداخلية أو الخارجية التي قد تكون وراء ذلك.
ورغم مرور عام ونصف العام على الهجوم الروسي على أوكرانيا فإن الفرصة ما زالت قائمة أمام تركيا لتقوم بدورها التاريخي في إيقاف هذه الحرب التي يتوقع لها الساسة والخبراء أن تستمر لعدة سنوات، وقد تتصاعد لتصبح وبالا على البشرية جمعاء.
ربما ينبغي على الرئيس أردوغان أكثر من أي وقت مضى أن يعيد ترتيب الأولويات ليقود تركيا للقيام بهذا الدور لأسباب عديدة، من أهمها:
- استمرار الحرب، وارتفاع فاتورتها البشرية والعمرانية، وإذا كانت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بلغت 600 مليار دولار في يونيو/حزيران من العام الماضي فمن المؤكد أنها تجاوزت تريليون دولار بعد عام من هذه التقديرات.
- فشل المبادرات السابقة وغياب أي مبادرة جدية تحقق مصالح أطراف الصراع المباشرين وغير المباشرين، وما زالت لغة الحرب والنصر والهزيمة هي المسيطرة على المشهد.
- تصلّب التأييد الغربي للحل العسكري، وتزايد احتمالات انفجار الموقف عسكريا، ليتحول إلى مواجهة مباشرة بين روسيا ودول الناتو.
- العلاقات القوية التي تربط تركيا بكل من روسيا وأوكرانيا.
- الموقف الحيادي الذي تمثله تركيا دونا عن بقية دول العالم، وذلك على الرغم من كونها دولة عضوة في حلف الناتو، فهذا الموقف مكنها من أن تحافظ على علاقتها مع كل من روسيا وأوكرانيا رغم الموقف التركي الواضح الذي أدان الهجوم الروسي على أوكرانيا منذ بدايته.
- مكانة تركيا السياسية والاقتصادية والعسكرية باعتبارها صاحبة إرث حضاري وتاريخي عريق، ودولة عضوة في حلف الناتو ومجموعة الدول العشرين، ولاعبا إقليميا بالغ التأثير على مستوى أوروبا والشرق الأوسط.
لا شك أن هذه المبادرة ستعود على تركيا بمصالح إستراتيجية كبيرة على المديين القريب والمتوسط في المجالين السياسي والاقتصادي على وجه الخصوص، سواء نجحت في مساعيها أو فشلت، حيث ستساهم المبادرة في تعزيز مكانتها الدولية على الصعيد السياسي باعتبارها لاعبا دوليا يحسب حسابه في القارة الأوروبية، وقد يدفع ذلك الاتحاد الأوروبي إلى المزيد من التجاوب مع طلبات تركيا المعلقة من أوروبا.
كما ستزيد المبادرة مصداقية توجه تركيا لحل مشكلاتها العالقة مع دول الجوار مثل أرمينيا واليونان، فضلا عن تعزيز مكانتها بين دول الحزام التركي التي ستنظر إلى تركيا باعتبارها الدولة التي يمكن الاعتماد عليها في المستقبل.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن المبادرة ستعزز الشراكة التجارية بين كل من تركيا وروسيا من جهة، وبينها وبين أوكرانيا من جهة أخرى، وستزيد فرص تركيا في أن تكون صاحبة أكبر نصيب من عقود إعادة الإعمار في أوكرانيا لما تتمتع به من سمعة متقدمة في السوق الأوكراني في هذا المجال.
فشل المبادرات السابقة في إيقاف الحرب وحل الأزمة الأوكرانية كان له أسبابه المباشرة، وهو ما يصب في صالح تركيا، ويفتح المجال أمامها لتقديم مبادرة جديدة تستفيد من أخطاء المبادرات السابقة وتتجنب المطبات التي وقعت فيها حتى تحظى بالقبول وتتكلل بالنجاح
لماذا فشلت المبادرات السابقة؟
رغم بشاعة الحرب الدائرة في أوكرانيا وخطورتها على الاستقرار الأوروبي والعالمي فإننا لم نشهد حتى الآن أي مبادرات أوروبية أو غربية جدية لإيقاف الحرب وحل الأزمة، ولا نسمع سوى أصوات التهديدات والإملاءات وناقلات الإمدادات العسكرية إلى جبهة القتال الأوكرانية، والمبادرات التي رشحت حتى اليوم كانت على النحو التالي:
المبادرة الأوكرانية
طرحها الرئيس الأوكراني على قمة العشرين المنعقدة في إندونيسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وتشتمل على عشر نقاط تتلخص في السلامة النووية، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، والإفراج عن الأسرى، والتشديد على تنفيذ ميثاق الأمم المتحدة، خاصة ما يتعلق باستقلال الدولة ضمن حدودها الإقليمية المعترف بها، وانسحاب القوات الروسية، ووقف الأعمال العدائية، ومحاكمة المسؤولين عن الحرب، ودفع التعويضات، والضمانات الدولية بعدم تكرار ما حدث.
وقد رفضت روسيا فورا هذه المبادرة واعتبرتها وهما، مما أدى إلى فشلها فشلا ذريعا، لأنها تركز على نتائج الحرب دون أن تأخذ في الاعتبار نهائيا الأسباب الأمنية الإستراتيجية التي دفعت روسيا إلى شن هذه الحرب، وقد كان من أسباب فشل المبادرة كذلك انحيازها إلى وجهة النظر الأميركية- الغربية من الحرب.
المبادرة الصينية
طرحتها الصين في فبراير/شباط الماضي واشتملت على 12 نقطة، يتلخص أبرزها في إيقاف القتال، وبدء محادثات السلام بين الطرفين، وإنهاء العقوبات على روسيا، وحماية الأسرى، ووقف الهجمات على المدنيين، والمحافظة على سلامة محطات الطاقة النووية الأوكرانية، وتأمين تصدير الحبوب.
وقد فشلت هذه المبادرة مباشرة لأنها جاءت من دولة منافسة للولايات المتحدة، وتشكل تهديدا مباشرا لمكانتها ونظامها النظام الدولي، وتخشى من أن يتكرر سيناريو روسيا/ أوكرانيا معها بسبب أزمة تايوان، بل وتتبنى موقفا مشتركا مع روسيا يطالب بإنهاء القطبية الأحادية الأميركية، وإصلاح النظام الدولي، وإقامة نظام بديل متعدد الأقطاب، وقد ألقى هذا الموقف بظلاله واضحة على بنود المبادرة.
اجتماعات كوبنهاغن- جدة
انعقدت في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن في يونيو/حزيران الماضي اجتماعات شاركت فيها 15 دولة، لبحث سبل إيقاف الحرب وإيجاد حل للأزمة الروسية الأوكرانية، ثم أعقبتها الأسبوع الماضي اجتماعات مماثلة في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية شاركت فيها 42 دولة، وانتهت بالتأكيد على مواصلة الحوار والنقاش في غضون ستة أسابيع من أجل التوصل إلى الصيغ المناسبة التي يمكن أن يقوم عليها الحل.
هذه الاجتماعات لم تقدم مبادرة محددة، وإنما جلسات نقاشية تمحورت حول بنود المبادرة الأوكرانية، وليس من المنتظر أن تسفر هذه الاجتماعات عن أي مبادرة تضع حدا لنهاية الأزمة بسبب غياب الطرف الروسي عنها، وتجاهلها اعتبارات روسيا الإستراتيجية الأمنية.
مبادرة مركز المصلحة الوطنية الأميركي
وهي خطة مقترحة لإيقاف الحرب نشرها المركز في يونيو/حزيران من العام الماضي بعد حوالي مئة يوم من اندلاعها، وهي من إعداد ضابط الأركان الأميركي السابق ديفيد تي باين الحاصل على درجة الماجستير في دراسات الأمن القومي من جامعة جورج تاون، ويشغل حاليا منصب نائب مدير العمليات الوطنية لفريق عمل “إي إم بي” المعني بالأمن القومي والداخلي.
وقد اشتملت الخطة المقترحة على 15 نقطة تعتبر الأكثر موضوعية وعقلانية بين جميع ما تم تقديمه من مقترحات حتى اليوم، لكن لم يُلتفت إليها لسببين رئيسيين، الأول أنها لم تمر عبر أي جهات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية، والآخر أنها لم تتبن وجهة نظر الإدارة الأميركية.
هذا الفشل الذي منيت به جميع هذه المبادرات والمقترحات والمحاولات الرامية إلى إيقاف الحرب وحل الأزمة كان له أسبابه المباشرة على نحو ما ذكرنا، وهو ما يصب في صالح تركيا ويفتح المجال أمامها للعمل على إعداد مبادرتها السياسية الخاصة التي تستفيد من أخطاء المبادرات السابقة وتتجنب المطبات التي وقعت فيها حتى تحظى بالقبول وتتكلل بالنجاح.
(يتبع.. بنود المبادرة التركية لحل الأزمة)