رأينا في مقالاتنا السابقة تأثر فتاوى العلامة الشيخ الدكتور محمد البهي (وزير الأوقاف المصري الأسبق) بالعلوم الاجتماعية، سواء على المستوى العام، أو على مستوى فتاوى العقيدة، وهي أوضح في فتاواه المتعلقة بالأسرة، ما يتعلق منها بالزواج أو الطلاق، أو العلاقات الأسرية بين العائلات، وما أكثر ما نجد فتاوى له عن العلاقة بالوالدين وزوجة الابن، أو العلاقة بين الخاطب والمخطوبة، أو أن تكون الفتاة وليا لنفسها عند الزواج، وهو ما اتضح أيضا فيه ما أسلفناه من أن البهي يستخدم العلوم الإنسانية ويوظفها مع علوم الشريعة والفقه، بشكل غير مسبوق في مستوى الفتاوى.
وفي ارتكازه على العلوم الإنسانية في الفتوى، يريد بذلك إقناع هذا الجيل الذي غزته أفكار الغرب، وغزته تقاليد وافدة من هنا وهناك، فكان لا بد من بيان الفتوى كرأي شرعي، لكنه يصل بها من مدخل علوم النفس والاجتماع، والتي كان مختصا فيها دراسة وتدريسا، وهو ما سنراه جليا في النماذج التي نذكرها في مقالنا عن فتاواه المتعلقة بالأسرة.
الضمير الإنساني قبل الفتوى والقضاء
المتتبع لفتاوى البهي فيما يتعلق بالأسرة والعلاقات الاجتماعية، سيلاحظ سر رجوعه الدائم للعلوم الإنسانية في هذه الفتاوى، فقد وضع نصب عينيه قاعدة توصل إليها، قال فيها: “والعبرة في الحل والحرمة ليست بالفتوى ولا بالقضاء، وإنما يرجع الأمر إلى معنى التدين والخشية من الله، أو إلى الضمير الإنساني في الإنسان ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقوله: “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار” يريد أن يوجه به أنظار المؤمنين إلى أن العبرة فيما يحل للإنسان وفيما يحرم عليه، ليس بقضاء القاضي، أو بفتوى المفتي، وإنما أولا بالعودة إلى السائلين الحكم أنفسهم وبمراجعتهم ضمائرهم.
وهذا دليل على أمرين:
الأول: على أهمية وجود التدين في ذات الإنسان، والتدين معنى نفسي يسائل الإنسان ويراقب سلوكه وتفكيره مراقبة ذاتية.
والأمر الثاني: على ثقة الإسلام في الإنسان الفرد، وتركه لإيمانه وضميره، قبل حكم القضاء، ورأي أصحاب الفتوى”.
تفسير اجتماعي لاشتراط الولي في الزواج
جمهور الفقهاء يشترط وجود الولي في الزواج، وبعيدا عن اختلافهم في جواز أن تتولى المرأة بنفسها عقد زواجها، وبعد أن ذكر البهي خلافهم، في إحدى فتاواه عن ذلك، وجدناه يقدم تفسيرا اجتماعيا مهما لوجود الولي في العقد، وأن اشتراطه لمصلحة اجتماعية لصالح الفتاة، وليس جبرا لها على الزواج بمن لا تحب، فقال:
“الإسلام يضمن للمرأة -ثيبا أو بكرا- رأيها ومشيئتها في الزواج، والإكراه في نظره مبطل لعقد الزواج، كما هو مبطل لأي تصرف يأتي من الإنسان المكره.
ووجود ولي البنت ليس ضرورة لصحة عقد الزواج منها، طالما هي رشيدة قادرة على الفصل في أمورها الخاصة، ووجود الولي مع البكر في الزواج هو أشبه بضرورة أسرية أو بضرورة اجتماعية. فوجوده يعتبر كضمان فقط لحسن اختيار الزوج لها، فهو أقرب الناس إليها، وأشدهم عطفا وحنوا عليها، وأكثر منها تجربة في مجال الزوجية ومجال الحياة العملية على السواء. ولذا كان العرف -أو كانت العادة- أن يباشر الولي عقد الزواج نيابة عنها”.
وفسر البهي لماذا يكون الولي هو القائم بعقد الزواج نيابة عن ابنته، فقال: “أولا: لعدم إحراجها وخجلها إذا ما عرضت نفسها على زوجها بقولها زوجتك نفسي”.
ثانيا: لإشعار الزوج أنه مشارك مع ابنته في المسؤولية الأدبية لهذا العقد.
ثالثا: لاطمئنان ابنته وهي ستنتقل من أسرة نمت وازدهرت فيها إلى تجربة جديدة ترجو النجاح فيها، دون أن تثق بما يخبئه الغد لها من متاعب وصعوبات، وكأنه بوجوده معها في عقد الزوجية يقدم لها السند المادي في حياتها المقبلة”.
النماذج التي سقناها في ربط الدكتور محمد البهي العلوم الإنسانية بالفتوى والتشريع، دالة بوضوح على أهمية تسلح الفقيه أو العالم بهذه العلوم
طلاق من يسب الدين نفسيا لا دينيا
سئل البهي عن رجل بلغت به عصبيته إلى أن سب الدين، بسبب خلاف بينه وأهل زوجته التي عقد عليها ولم يدخل بها، فهل يقع الطلاق هنا بسبه الدين عند الغضب؟ وبعد أن أجاب عن السؤال من حيث وقوع الطلاق أم لا، وأنه لا يقع هنا لأنه في حالة غضب، وحالته غير قاصد لسب الدين بمعنى الكفر، مستدلا بقوله تعالى: “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان” النحل: 106، معتبرا الغضب هنا مما يكره عليه الإنسان.
لكن البهي أكمل في فتواه النظرة النفسية في الموضوع من حيث استمرار الزواج أم لا، فقال: “هذا من الوجهة الشرعية، ولكن من جهة نفسية أخرى هو: أن الرجل الذي يصل به انفعاله إلى سب الدين والكفر به، وليس لديه من ضميره، ولا من دينه، ولا من شخصيته وتربيته وتوجيهه رقيب، يرافق انفعالاته وعواطفه، ويتحكم فيها، قبل أن تعبر عن نفسها في تصرف يسيء إليه، أو إلى آخرين معه.. مثل هذا الرجل ضعيف الشخصية، وبالتالي لا تؤمن عواقب ضعف شخصيته في المعاشرة الزوجية، أو في معاملة من يختلطون به.
والعوامل الآن متوفرة في عدم الاطمئنان إلى هذه الزيجة مستقبلا، سواء من جانب الزوجة وعواطفها الدفينة وتصرفاتها المعبرة عن هذه العواطف، أو من جهة الزوج وضعف سلطته الذاتية على تصرفاته الخاصة وانفعالاتها حين الإثارة والغضب. والأولى عندئذ الطلاق، فإنه الحل لرفع الضرر في المعاشرة الزوجية، إن اتضح عدم جدوى البدء بها، أو عدم الاستمرار في المعاشرة”.
تفسير إنساني راقٍ لقوامة الرجل
ومن اللمسات عالية النضج والفهم للقرآن الكريم، في مسألة الدرجة التي يمتاز بها الرجل في العلاقة الزوجية، التي فسرها الكثيرون بالقوامة، نجد محمد البهي يضيف إلى هذا التفسير تفسيرا آخر مهما، ينطلق من روح القرآن والتشريع الإسلامي، إذ يقول:
“والدرجة التي تسندها الآية إلى الرجال في قولها: (وللرجال عليهن درجة) ليست درجة السيادة، ولا درجة الامتياز، وإلا كان عقد الزواج عقدا غير متكافئ ولا متماثلا. وعدم التكافؤ -أو عدم المماثلة- يبطل أي عقد في الإسلام. ولكن المراد بالدرجة درجة الإنسانية في المعاملة، درجة التهذيب والتفوق في حسن العشرة. ومعنى أن يكون للرجال درجة أعلى من النساء، أن الحقوق بين الاثنين إذا كانت متماثلة، فينتظر من الرجل مع ذلك أن يكون أسخى في معاملته، أن يكون محسنا، أن لا يكون حرفيا، وإنما يعطي لها أكثر مما يأخذ منها”.
ربط الجانب النفسي والطبي بالدين في الفتوى
ومن دلائل ربط البهي رحمه الله بين العلوم الإنسانية والفتوى، ما نراه في فتواه عندما سألته زوجة، قائلة إن لديها 3 أطفال، وحبوب منع الحمل تضرها جدا، وتسبب لها آلاما كثيرة، وقد اقترح عليها زوجها أن تجري جراحة تعقيم لضمان عدم الإنجاب، فهل تقدم على هذه العملية؟ وفي جوابه على السؤال، تناول البهي الجوانب المتعددة للفتوى، فالجانب الديني فيها يسبقه ويصاحبه جوانب أخرى مهمة، فقال البهي مجيبا:
“لعملية التعقيم -التي تسأل عنها السائلة- جوانب عديدة:
الجانب الأول: هو الجانب الطبي، أي الجانب الذي يفصل فيه طبيب يوثق فيه، في خبرته وفي مشورته.
الجانب الثاني: وهو الجانب النفسي، أي هو ذلك الجانب الذي يتضح منه أثر هذه العملية على نفسية الزوجة. إذ إنه سيدور في خاطرها عدة تساؤلات عن مستقبلها في حالة ما إذا توفي عنها زوجها وهي لم تزل في سن إنجاب الأولاد، أو إذا ما توفي أحد أطفالها الثلاثة، أو ما إذا طلقت وتوفر لها زوج آخر.
الجانب الثالث: هو الجانب الديني، أي رأي الإسلام، بعد ما ينكشف أثر الجانبين السابقين، ورأي الإسلام في ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا في الحل والحرمة بالنتائج الإيجابية والسلبية لما يقرره الطب في هذه العملية، أو لما يظهر من الأثر النفسي خاصة بها.
فإذا قالت الخبرة الطبية الأمينة إن لهذه العملية على السائلة آثارا جانبية تضرها مستقبلا كان رأي الإسلام تحريم إجراء عملية التعقيم لها، وإذ كانت هذه العملية من الجانب النفسي ستحدث لها اضطرابا وقلقا في نفسية السائلة فكذلك رأي الإسلام لا ينصح عندئذ بإجرائها لها”.
النماذج التي سقناها في ربط البهي العلوم الإنسانية بالفتوى والتشريع في كتابه، دالة بوضوح على أهمية تسلح الفقيه أو العالم بهذه العلوم، وهو ما يتضح في فتاوى البهي، الذي مزج الفكر بالفقه والتشريع، وجعلهما في اتجاه واحد، لا تعارض بينهما، مع تضلع شديد بالقرآن الكريم، والفقه الإسلامي.
وقد سقت نماذج قليلة، وإلا فالعودة للكتاب ستضع بين يدي القارئ نماذج واضحة لما ذكرنا، كحديثه -مثلا- عن حكم إرضاع الأم لابنها عامين، ولماذا؟ وكلامه عن أن لبن الأم هنا ليس خدمة صحية لابنها فقط، بل هو خدمة إنسانية للطفل والمجتمع، حيث يساهم في وجود إنسان سوي نفسيا واجتماعيا عن طريق ما يرتشفه من عواطف وثمار نفسية مع الرضاعة، وحديثه عن فلسفة الإرث في الإسلام، والهدف من الزواج، كلها فتاوى دالة بوضوح على حسن توظيفه للعلوم الإنسانية في الفتوى، ليكون بذلك نموذجا معاصرا علميا وفكريا على هذا المزج بينهما.