حمل تشكيل الحكومة التركية الجديدة حدثين غير عاديين: قدوم وزير الخارجية من الاستخبارات، وقدوم مدير الاستخبارات من المؤسسة الأكاديمية والفكرية. وزارة الخارجية الموصولة أساسًا بالاستخبارات (كأي مؤسسة أخرى في الدولة) والقادرة على الوصول إلى قاعدة معلوماتها ستستفيد من الكفاءة الأمنية غير العادية لمسؤولها الجديد، لكن وجود مؤسسة الفكر على رأس هرم مؤسسة الاستخبارات يعد فرصة لتحول مؤسساتي حيوي في نمط عمل الأخيرة، وفي عصر تتطلب فيه الحلول الأمنية تقويمات ثقافية متخصصة.
الحيوية في التحول على صلة بأحد أهم التحديات التي تواجهها الدول والتي هي صناعة الأفكار الجديدة، والتي تبطئ ترهل الدولة وتمنعها من الدخول في الركود الذي يبدأ باهتزاز ثقة المواطن بمقوماتها الحضارية ثم بقدرتها على التنافس العالمي وانتهاءً بالتهكم بالذات.
وقد وصف خبير غربي واقع الأجيال بعد 100 عام من حكم النظم الديمقراطية بأنه: ماضٍ جميل لا يستطيعون العودة إليه ومستقبل مجهول يخشون السير نحوه وحاضر يراوحون فيه، والسبب هو مفاهيم منتهية الصلاحية تعجز عن توليد أفكار جديدة ونظم سياسية تفشل في تجديد نفسها.
وفي الشرق -كذلك- نحن في مراوحة فكرية، سببها المفاهيم مفتوحة الصلاحية لنظام شامل لمناحي الحياة نريد التمسك به هو نظام الحضارة الإسلامية، ونريد في نفس الوقت أن نكون فاعلين في النظام العالمي المعاصر فنفشل في إيجاد التوازن ونراوح في مساحة رمادية تتسلل منها مشاريع داخلية وخارجية غير صديقة تقوّض أمننا القومي.
ولو أننا وضعنا مفاهيمنا التي تحمل براءة اختراع ما يعرف اليوم بالتعددية العرقية والدينية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وحقوق المرأة والأحوال المدنية للأقليات والأوقاف واللجوء السياسي وغيرها، لو وضعناها في قوالب معاصرة لوجدناها منتحلة في النظام العالمي المعاصر. نحن مؤسسو هذه المفاهيم ندخل هذا النظام بنكهتنا الثقافية دونما رتوش فتتناسق هوية الدولة في الداخل والخارج وتتعزز مكانتها أمام المواطن والعالم وتنحسر المساحة الرمادية.
ومهمتنا في الشرق أسهل من مهمة الغرب، فهي إعادة عرض لمفاهيم حية فيما يبحث الغرب عن مفاهيم أذهب مقوماتها الابتعاد عن الفطرة. مؤسسة الاستخبارات المناط بها حماية الأمن القومي والقادرة على بلوغ أي نقطة في المجتمع وإيصال أي رسالة إليها وإنجاز مسح ثقافي للمجتمع والعودة بتغذية عكسية، هذه المؤسسة هي المعنية بردم المساحة الرمادية.
تحديات تواجه الاستخبارات على طريق ردم المساحة الرمادية
- في البنية: الثقافة ليست في صميم مؤسسة الاستخبارات، ولا في عناصرها، ولا في المعلومات التي تجمعها، أو تقويمها الظرفي للأحداث المتأثر بالتقلبات الأمنية (هذه ظاهرة عالمية). وفي الغرب، يعتذر رجل الأمن على المنافذ الحدودية لكونه غير مثقف حين يجد نفسه وسط نقاش ثقافي.
- في الآلية: بين مؤسسة الاستخبارات وبين المشاريع الثقافية للمجتمع المدني مصلحة مشتركة. بين شبكة ليس لديها مشروع ثقافي، ومشاريع ثقافية ليس لديها شبكة. أي أن مؤسسة الاستخبارات لا تعمل بكامل طاقتها، وأنه بالإمكان سد عجزها التشغيلي من خلال سد العجز التسويقي للمشاريع الثقافية. ومن المعروف أن قسماً مهماً مما توصله مؤسسة البريد إلى المنازل في البلدان المتقدمة هو منشورات تسويقية واستطلاعات رأي لمؤسسات شتى.
- المحصلة: الاستخبارات جسم غير موصل للثقافة بما فيه الكفاية (على غرار الأجسام غير الموصلة للكهرباء). المصابيح الحمراء فيه تضيء عند استفحال (الورم الثقافي)، وحين تصبح الوسيلة الأمنية هي الحل، ما يدفع الورم إلى إعادة تشكيل نفسه، ويبقى الأمن القومي حاملاً للداء.
معالجة هذه التحديات تختزل معوقات للأمن القومي منها:
- عجز مراكز الفكر عن إيصال نتاجها إلى صانع القرار (غالبًا بتأثير الاستخبارات) وعجزها عن أن تكون جسراً بين المجتمع والحكومة، وهي المهمة التي من أجلها وجدت (ظاهرة عالمية).
- عزوف المفكر (الجاد) عن مراكز الفكر لأن طريقها غير سالك إلى صانع القرار (كعزوف نجوم كرة القدم عن الأندية التي لا تصل إلى البطولات العالمية) وغيابه عن عملية التغذية الفكرية للمؤسسة السياسية.
- الانسداد الفكري: معادلة طرفاها سياسي يبحث عن اختراقات فكرية يعبئ بها قاعدته الجماهيرية فلا يجدها، ومفكر يبحث عن سياسي يروّج له نتاجه الفكري فلا يجده.
- انفتاح ثغرات فكرية كبيرة في جدار المؤسسة السياسية تسمح بظهور أحزاب سياسية طفيلية وبدخول التيارات الشعبوية إلى العملية السياسية.
- متوالية الانحطاط السياسي: فقدان العملية السياسية للمصداقية الفكرية، عزوف الناخب عن الانتخابات، تعذر تشكيل حكومات أغلبية، ظهور حكومات ائتلافية عاجزة، تعذر الإصلاحات الإستراتيجية.
ثنائية الفكر والأمن
في حواسيب الاستخبارات أكداس من المعلومات غير القابلة للتصنيف في أطر نافعة، ومصيرها الإتلاف لكونها جمعت لمقصد واحد هو الأمن. ولو أنها جمعت لمقاصد متعددة، لتعددت أطر الاستفادة، ونتج عنها أوراق حيوية تحتاجها الدولة. ما يجعل اجتماع المؤسسة الفكرية والاستخبارات تحت سقف واحد فرصة لتحول باتجاهين:
- الاتجاه الأول: نوع المعلومات التي تستهدفها الاستخبارات، وصفة المخبر الذي لن يبقى عنصراً أمنياً فقط، بل يسعى بالمعلومة الثقافية إلى شرائح أعلى في السلم الثقافي للمجتمع وأكثر تمثيلاً لبوصلته. ويعود بتغذية عكسية هي أشبه بإمضاء الاستلام في خدمة البريد المسجل.
- الاتجاه الثاني: تبدّل نظرة المواطن التوجسية تجاه الاستخبارات كجهاز مهمته حماية النظام السياسي فقط إلى آخر يحمي المواطن في الحياة العامة بالتوازي مع حماية الأسرة له في الحياة الخاصة في المنزل. وينشأ عن المسؤوليات المتوازية وشيجة خاصة بين الدولة والمواطن. ويوجد في مجتمعات الغرب آصرة متينة بين المواطن وبين الدولة خارج مساحة السياسة تجعل من الأمن القومي مسؤولية الجميع.
هل هذه مفاهيم جميلة لغيرنا تشتهيها أنفسنا مما يقع خارج ذائقتنا نحن كمسلمين أو كشرقيين؟ لنرَ:
علم الرجال (علم مصطلح الحديث) الذي أنشئ في القرن الثاني من الدولة الإسلامية كان فعالية استخبارية الغرض منها تأسيس قاعدة معلومات تحمي المصدر الثاني للدستور (الحديث الشريف) من حملة تزوير (الفتنة) استهدفته. اجتمعت في هذه القاعدة الوسيلة الأمنية (أضابير عن السيرة الشخصية لرواة الحديث) والغاية الفكرية (تحقيق متن الحديث).
ويجدر بالملاحظة أن القاعدة أنشئت في أجواء انقسام سياسي حاد، غير أنها كانت موطن إجماع لأن نجاة الدولة كانت أولى من الخلاف السياسي في رأي الناس. وفي تركيا، قدّم الناس الالتفاف حول الحكومة في الانقلاب الفاشل في عام 2016 على الخلافات السياسية عندما ظهر خطر الانقلاب على سلامة الدولة.
المحور الفكري في الأمن القومي
رغم التباعد الزمني بين المشهدين (14 قرنا) واختلاف طرائق الحياة وأساليب الإدارة، فإن هدم الدولة يمثل المحور المشترك بينهما. في المشهد الأول، انطلقت المعركة من الأسفل (تشويش على الحديث الشريف على مستوى الشارع) صعوداً إلى هدم الدولة (التشكيك في أحقية من يحكم). ويبدأ المشهد الثاني بهدم الدولة (عسكرياً أو اقتصادياً أو قضائياً) نزولاً إلى سحق مكتسباتها. وهذا ما تعرضت له تركيا في محاولات متكررة وهيئات مختلفة، وما صرحت به أحزاب المعارضة بشكل سافر في الانتخابات الأخيرة.
والدولة ليست مقدسة لذاتها، لكن ما لا يتم الواجب إلا به، يصبح واجباً. وبضياع الدولة تضيع المقدسات (كما يحدث في العديد من بلداننا)، والحفاظ عليها لا يتحقق من دون فكرة يلتف حولها المجتمع. فيصبح إيجاد الفكرة مطلباً مقدساً.
علم مصطلح الحديث نشأ في القرن الثاني من الدولة الإسلامية كفعالية استخبارية الغرض منها تأسيس قاعدة معلومات تحمي المصدر الثاني للدستور (الحديث الشريف) من حملة تزوير استهدفته
رصيد جديد
حين تتعدد مقاصد الاستخبارات، تغدو كافة مؤسسات المجتمع روافد معلوماتية لها، وتصبح معهداً للعلوم التطبيقية يتفوق في فاعليته الميدانية على المؤسسة الأكاديمية التي على تماسّ -يقيده الزمن- مع المجتمع (كما في بحوث الماجستير أو الدكتوراه). فيما تديم الاستخبارات تماسها كأجهزة الرصد الزلزالي المثبتة على أطراف الصدوع الجيولوجية والتي ترسل المتغيرات لحظة بلحظة.
وحين تعطي الاستخبارات في تركيا الضوء الأخضر لثنائية الفكر-الأمن، سيجتمع خارج شبكتها كم هائل من المعلومات المحلية والإقليمية المتحركة (الحاضرة) والساكنة (الأرشيفية)، التي تريد الجريان في عروق المجتمع (كالصبغة التي يحقنها أخصائي الأشعة الملونة في الجسد لإظهار التفاصيل التي لا تظهرها الاختبارات الأخرى)، لاستكشاف حاضره واستشراف مستقبله. الأشعة الملونة (الثقافية) هي ضرورة حيوية للدولة في الشرق لأنها مسرح للمشاريع الثقافية الوبائية، في حين تكتفي الدولة في الغرب بالأشعة العادية (الأمنية) لاكتشاف الإرهاب العنيف والاقتصادي وغيرهما. وينجم عن ذلك:
- حصول الاستخبارات على خلاصات علمية متخصصة جاهزة للاستخدام (عوضاً عن المعلومات الخام).
- حصول الدولة على أرشيف أمني/علمي يتفوق على الأرشيف العثماني الذي هو على شكل كشوفات إحصائية (متوقف عن التغذية منذ عام 1915).
الإصلاح الكبير
احتفلت تركيا في يوليو/تموز 2023 بالمئوية الثانية للدولة، وهي تتجه نحو إصلاحين هامين لتحولين عميقين أصابا بنيتها السياسية والاجتماعية الداخلية والإقليمية إصابات بالغة، خلال وبعد انهيار الدولة العثمانية، وتركا عائقًا في قدراتها كمجتمع وكدولة وكقوة إقليمية.
- إصلاح داخلي: إصلاح المؤسسة السياسية بمعالجة المعارضة السياسية غير الإيجابية المسؤولة عن زج البلاد في شلل سياسي مزمن، والتي تشكل حالة انفصام بين السياسة وقيم المجتمع.
- إصلاح إقليمي: إصلاح العلاقات الإقليمية ممثلاً بمشروع القرن التركي، ويرمي إلى استعادة تركيا نفوذها الإقليمي بأسلوب المصالح الإقليمية المشتركة.
والإصلاحان هما صمام أمان المئوية الثانية، وثنائية الأمن-الفكر هي صمام أمان الإصلاحين فلا وجود لأحدهما بغياب الآخر.
1- إصلاح المؤسسة السياسية (الإصلاح المحلي)
التحالف الذي شكلته أحزاب المعارضة في كتلة (الطاولة السداسية) في الانتخابات التركية الأخيرة لا يخالف قواعد الديمقراطية، لكن اجتماع الكتلة على إسقاط حكومة الأغلبية وانقسامها بعد ذلك حول كل شيء يعني الرجوع القهقرى بالبلاد إلى حقبة الحكومات الائتلافية وإلى الشلل السياسي المصاحب، وحصول بعض الأحزاب الصغيرة التي تختلف مع المصالح العليا للبلاد لتكون بيضة القبان في البرلمان، وهذا يتعارض مع مصلحة الأمن القومي.
والتسقيط السياسي لقادة الكتلة (كأسلوب متبع في الانتخابات في كل مكان)، هو ابتعاد عن الصورة الكبيرة والتي هي تقويض الدولة ونظامها الهرمي عن طريق اختراقها بالتنظيمات الأفقية لأحزاب المليشيات والتنظيمات الغامضة. والخطر الذي تشكله هذه الكتلة على سلامة الدولة غير واضح بدرجة كافية عند الناخب، لذا تنجو من النبذ الاجتماعي وتتمكن من حصد قرابة نصف أصوات الناخبين وتدنو من حكم البلاد.
والتنافس بين نظام الدولة ونظام اللادولة (المليشيات الطائفية) هو سمة الصراع في الشرق الأوسط اليوم. وتقع على عاتق الاستخبارات مسؤولية نشر مفهوم الدولة وسلامتها في المجتمع وجعله المعيار الأساسي للمواطنة وحجب رخصة العمل السياسي عن الأحزاب التي لا تستوفي هذا الشرط، على غرار حجب الشيوعية في أميركا التي تعد عدواً لليبرالية والمواطنة. وسيختفي عدد من الأحزاب السياسية التي لا يتجاوز دورها تشتيت صوت الناخب في الانتخابات، وبذلك تشترك القوة السياسية في الانتماء وتختلف في طرق خدمة المجتمع وينتهي صراع الهوية.
2- القرن السياسي (الإصلاح الإقليمي)
جوار تركيا العربي يهمه القرن التركي لأن القرن (السياسي) ليس حالة قومية تعرّف بمساحة جغرافية، وإنما هو مجال ثقافي يعرّف بالمفاهيم التي تصطبغ وتتأثر بها الشعوب المحيطة فتطلبها أو ترفضها (كنظام الطقس الذي يتمدد وينكمش بحسب ارتفاع وانخفاض الضغط الجوي المحيط به). فمثلاً، تأثرت شواطئ أوروبا المتوسطية بالعمارة الإسلامية وتباهى شباب أوروبا بالتحدث بالعربية (كما يفعل شباب اليوم مع الإنجليزية)، وتعبدوا بها في كنائسهم وقلدوا اللباس العربي، ولم تكن بلادهم تخضع لحكمهم وذلك عندما كان القرن عربياً إسلامياً في شواطئ أفريقيا المقابلة. وتأثرت شعوب وسط وشمال أوروبا بالقرن الأندلسي مثلما تأثرت دول أوروبا بالنظم القانونية والاجتماعية للقرن العثماني. وتأثرت أوروبا بقرن الثورة الفرنسية وغزت أدبياتها منازلها. ويتأثر العالم اليوم بالقرن الغربي ومعلمه الأساسي تفكك الأسرة والانعتاق من القيم.
وتشتد حاجة الأمن القومي لدولة المحور في القرن السياسي إلى مؤسسة أمنية تعمل بثنائية الأمن والفكر (مضافاً إليهما الذراع الثقافي الإقليمي) لإحداث المجال الثقافي. وعلى الرغم من وثبات تركيا العريضة باتجاه انتمائها الحضاري الذي تشترك به مع محيطها، لكن هذا المحيط (بما في ذلك المناطق العربية التي تحت الحماية المباشرة لتركيا)، لا يزال يتأثر بالقرن التاسع عشر (الأوروبي)، الذي كان قد نجح في تفكيك القرن العثماني الإقليمي وإزاحته بمفاهيم جديدة (القومية) وتأسيس قرن جديد: القومي.
وجود مؤسسة الفكر على رأس هرم مؤسسة الاستخبارات وتحت نظام سياسي داعم يوفر فرصة ثمينة لتدشين عصر جديد من العمل الأمني يحمي الأمن القومي ويوسع آفاق الدولة ويواكب مقتضيات العصر
السلعة المحلية التي تستوفي المواصفات العالمية تصبح جاهزة للتصدير على الفور شرط توفر الأسواق الخارجية. و”القرن” في مصطلح السياسة مرادف “للتصدير” في مصطلح التجارة. وأهم سلع تركيا هي: الدولة والمجتمع والأسرة: الثالوث الذي نهضت عليه الحضارات البشرية وحضارات الشرق على وجه الخصوص، وأهم سوق لها هو محيطها الذي خسر هذا الثالوث ويطلبه بمعايير يجدها عندها.
وتركيا إذا على الطريق الطبيعي والسريع للتصدير (طريق القرن) لكنها بحاجة إلى سوق يستقبل سلعها. وبعبارة الرئيس أردوغان هي بحاجة إلى العمق العاطفي خارج حدودها الطبيعية: (إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل يمكن أن يكونوا خارج حدودنا الطبيعية لكنهم ضمن حدودنا العاطفية). ويحق هنا التساؤل عن مدى الدور الذي تقوم به تركيا لدفع الصراع الإقليمي باتجاه معاقل قوتها (الدولة والمجتمع والأسرة) لاستقطاب تعاطف الناس الذين خارج حدودها الطبيعية وضرب عصفورين بحجر واحد:
الأول: إحباط القرن الطائفي (المتصادم مع مفهوم الدولة والمجتمع والأسرة) الذي ينشئه غريمها الإقليمي (إيران). الثاني: سيكون هذا الاستقطاب العابر للقومية هو الأول في المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى وإيذاناً بتفكيك القرن التاسع عشر وحلول قرن جديد. ومن دون إزاحة هذين القرنين لا تكون المنطقة جاهزة لقرن جديد.
وصفة نادرة
في عام 2007، صرح إبراهيم قالن، المدير الجديد للمخابرات التركية (حينها المنسق العام في مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية SETA): “دأبت الدولة على رفض الاستعانة بأفكار المؤسسات الأخرى، وهي ظاهرة ينبغي إعادة النظر فيها. الدولة تدرك أنها لا تمتلك المعرفة حول كل شيء، ولا تمتلك المصادر الكافية أو الأعداد الكافية من الخبراء، وأن الاعتراف بهذه الحقيقة يقتضي تحطيم حاجز نفسي، وأعتقد أن هذا الأمر قد بدأ” (صحف تركية).
وتصريح قالن كان صدًى لتصريحات الرئيس أردوغان (حين كان رئيس الوزراء): “تركيا متأخرة في استحداث مراكز فكر فاعلة، ومثل هذه المراكز يجب أن تكون مهمتها نقل سياسات تركيا إلى العالم” (صحف تركية).
ومنذ ذلك الحين قطعت تركيا شوطاً ملموساً بهذا الاتجاه، لكن مكتسباتها الداخلية والإقليمية والعالمية لا تزال أكبر من قدرات مؤسساتها الثقافية على ترجمتها إلى مفاهيم، وعلى زرع لافتات دالة على امتداد طريق الإصلاح الطويلة. فلا شيء يبعث على الملل عند المسافر أكثر من رحلة بعيدة على متن طائرة ليس فيها شاشة تعرض مسار الرحلة وتبين موقع الطائرة عليها، ولا شيء يبعث على القلق أكثر من مطبات جوية لا يسبقها إنذار.
ووجود مؤسسة الفكر على رأس هرم مؤسسة الاستخبارات، وتحت نظام سياسي داعم، يوفر فرصة ثمينة لتدشين عصر جديد من العمل الأمني يحمي الأمن القومي ويوسع آفاق الدولة ويواكب مقتضيات العصر.