(1)
أما بعد..
فقد مضى من عمري ثلاثون عامًا، وقد اختفى زوجي قسريًّا منذ سنوات عدة، اختطفوه وكنت حاملًا في ابنتنا، مضت هذه السنوات ولا أعرف عنه شيئًا، بغيابه كنت أفتقد كلَّ شيء سوى فضل الله ولطفه، تعلَّمت كثيرًا، وخضت كثيرًا، ولا أزال في خِضَمِّ التجربة.
أحب زوجي جدًّا، أشتاق إليه وآمُل أن يعود، لكن أخشى أن يكونوا قد قتلوه، ولذلك أسألك -يا مولانا- أن تفتيني في أمري: هل الانتظار واجب؟
(2)
كنت أعتقد من قبل أن الخط الفاصل بين الواجب والخيانة واضح وجليّ جدًّا، لا يحتاج إلى تفكير؛ فالشريف -يا شيخنا- لا يتردَّد أبدًا في مسألة أخلاقية، لقد حسم أمره من قبل، لن يقف أمام خزينة أموال -مثلًا- فيسأل نفسه: أأسرق أم لا؟
إنه أجاب قبل سنوات حين غلَّب قِيَمه على مصالحه.
يقع شريك الحياة في أزمةٍ ما، فيتحتَّم على شريكته أن تقف معه، أن تصبر على ما أطاح بحياتهما الهادئة، لا تفكِّر ولا تتردَّد، أمر بدهي، وهكذا فعلتْ نسوة كثر، في مصر، وفي فلسطين، وفي سوريا، وفي غيرها، تمضي سنوات وهن صابرات، لا يشتكين، ولا يتراجعن.
لكنَّ الأمر في حالتي مختلف كليًّا؛ لقد اختطفوه، ثم قالوا: إنهم ما فعلوا.
مرت سنوات، ونحن لا نعلم إذا كان لا يزال يشاركنا الحياة الدنيا، أو أنهم قتلوه، إنهم ينكرون الأمر تمامًا، وكأن الذين اقتحموا بيتنا وحطَّموه وخطفوا زوجي من فراشه، كانوا مخلوقات فضائية.
فجأة وجدتني أخوض معارك على كلِّ الجبهات: اجتماعية ومالية وتربوية، وما لم أعتدْ القيام به، بات عليَّ القيام به، شئتُ أو أبيتُ، حتى ولو استلزم أمر إدارة بيتي -الذي يضمني وابنتي- أن أنفق كل ما لديّ من مدخرات.
ورغم ذلك فإن المجتمع لا يرحمني، تتحول حياتي اليومية -أحيانًا- إلى جحيم، بين متسائل: أين زوجك؟ وبين شامت، وبين متشكِّك في أمري، والكلام -يا مولانا- يجرح ويعرّي.
في مشاويري للبحث عن زوجي تعرضت للتهديد، توقَّفي واصمتي، هكذا طُلب مني، نصحني أولاد الحلال بالهرب، ساعدوني وغادرت البلاد، هدأتُ قليلًا والتقطت أنفاسي، لكن الهلع أصابني مرة أخرى، ليس خوفًا من أن يفعلوا بي ما فعلوه مع زوجي، فقد بتُّ بعيدًا عن أياديهم، ولكن كيف سأمضي في الحياة وحدي في بلد غريب، دون أقارب أو سند، دون مصدر لأعيش منه سوى ما يصلني من أهلي من فترة لأخرى؟
لقد جمعتْني المصيبة مع أخريات، لسنَ بالضرورة مثلي تمامًا، لكننا جميعًا زوجات مع وقف التنفيذ، وأزواجنا إما رهن الاعتقال أو مثلي مفقودون.
(3)
يا سيدنا..
قبل أن أتوجَّه إليك برسالتي هذه، حاولت أن أسأل المقربين مني: ماذا أفعل؟ غير أنهم استهجنوا سؤالي بالأساس، فكانت ردودهم في غاية القسوة، وكأنني قد خنت حبيبهم، زوجي وأبا ابنتي وحبيبي.
لم يُجب أحد عن سؤالي، ولم يحاول أن يقدِّم لي حلولًا، لذلك أنا في غاية الارتباك، وأردت أن أستشيرك، وأسمع فتواك.
هل على التي اعتُقل زوجها -ولا تعلم مصيره- أن تنتظره مهما طالت السنون؟
وماذا إذا لم يكن على قيد الحياة، إذا كانوا قتلوه كما فعلوا مع أقران له؟
كيف تنتظر امرأة وحيدة مع ابنتها في غربة دون سند إلى ما لا نهاية؟
وفي الوقت ذاته كيف تنفصل وهي لا تعلم إذا كان حيًّا أو ميتًا؟
ألم نسمع من قبل عن الزوج الذي ظنت زوجته أنه قُتل، فإذا به يخرج بعد عقد من الزمان، ليجد زوجته قد تزوجت وأنجبت؟
وإذا قررت الانفصال، ألا يكون قد شاركت بذلك الجناة جريمتهم وزادت العدوان على الضحية؟
أترى كيف أتقلب بين هذا السؤال وذاك؟
الأمر نفسه بين حال وآخر.
سأنتظر، واجبي أن أنتظر.
كيف سأنتظر؟
عليَّ أن أُنقذ نفسي وطفلتي.
ألا لعنة الله على الظالمين.
(4)
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾
فضيلة الشيخ..
أفتني، كيف أقدِّر وسع نفسي، ومقدار تحمُّلها؟
ما وحدة القياس؟
هل بالتجربة؟
أمضي صابرة لسنوات فإما أن يعود حيًّا، وإما أن أكتشف وفاته، وحينها أكون قد خسرت كل شيء، ثم الأهم، حتى لو رغبت في الانتظار، كيف أستطيع تحمل نفقاتي وابنتي سنوات طويلة؟
أعود وأسأل نفسي: ماذا لو كنت أنا من غُيِّب، ثم عدت بعد سنوات لأكتشف أنه أخرجني من حياته وتزوج بأخرى؟
لكن المقارنة هنا فاسدة، فالحالتان مختلفتان.
لا أشك -ولو لحظة- في أن الله -عزَّ وجلَّ- سيعاقب الجناة.
لماذا لا يُعلنون التهم الموجَّهة إلينا بصورة واضحة وقاطعة؟
ثم لماذا لا يحاكموننا؟
لكنْ هل الجناة هم فقط من خطفوا زوجي وحطَّموا حياتنا؟
أو هذا المجتمع الذي لا يرحم، ولا يدع أحدًا في حاله؟
يا إلهي..
ماذا فعل المجرمون بنا؟
انظر كيف أفسدونا؟
يا شيخنا..
بالله عليك.. هل أنا آثمة إذا تمنيت أن يكون قد قُتل؟
لقد جمعتْني المصيبة مع أخريات، لسنَ بالضرورة مثلي تمامًا، لكننا جميعًا زوجات مع وقف التنفيذ، وأزواجنا إما رهن الاعتقال، وإما مثلي مفقودون.
عندما استمعت لحكاياتهن، وما يجري للمعتقلين من تعذيب، تمنيت أن يكون قد قُتل، في الموت -أحيانًا- نجاة.
هل تتخيل إلى أي حدٍّ صرنا؟
شيء لا يصدقه عقل، ولا يمكن أن يتخيله شخص سويّ.
(5)
سيدي..
أخبرني بربك، كيف أجيب ابنتي إذا ما كبرتْ وسألتْ:
“أين أبي”؟
“أين أهلي”؟
“أين الوطن”؟