في وقت مبكر من عمر القضية الفلسطينية، أسس سليمان التاجي الفاروقي صحيفة “الجامعة الإسلامية” لتؤدي دورا مهما في نضال الشعب الفلسطيني وإعداده لثورة 1936.
كان الزمان هو عام 1932، وفلسطين لا تزال تغلي من التغيرات الديمغرافية المتلاحقة التي تواترت عقب وعد بلفور (عام 1917) الذي تعهد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فأمام الهجرات المتتالية لليهود صوب فلسطين التي كانت في ذلك الوقت جزءا من السلطنة العثمانية يخضع للانتداب البريطاني، أمام تلك الهجرات تعددت الاجتهادات بشأن مسارات الحل، وكانت هذه الصحيفة تنحاز إلى حل واضح يعبر عنه اسمها “الجامعة الإسلامية” وهي فكرة بدأ الدعوة إليها الشيخ محمد عبده في مصر، وتأثر بها تلميذه الشيخ الفاروقي وعاد إلى بلاده في فلسطين داعيا إليها بالصحافة حينا وبالسياسة والمحاماة أحيانا.
من مقاومة الإعاقة إلى مقاومة الاحتلال
ولد الفاروقي عام 1882 ميلادية في مدينة الرملة بفلسطين لأسرة يعود نسبها إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وفي التاسعة من عمره فقد بصره، لكن هذه الإصابة لم تنل من عزيمته الماضية، ولم تكن حجر عثرة في طريق شاب يتميز بالذكاء الحاد.
في عام واحد حفظ القرآن، وأرسله والده إلى الجامع الأزهر في مصر ليتم دراسته فأمضى هناك 9 أعوام، تتلمذ خلالها على يد الشيخ محمد عبده الذي انتبه إلى ذكائه الحاد فقربه منه واهتم به، وجعله ينوب عنه في تقديم بعض دروسه.
عاد بعد ذلك الفاروقي إلى فلسطين ليغادر مجددا إلى إسطنبول -عاصمة الخلافة العثمانية- في رحلة تعليمية جديدة حصل خلالها على إجازة الحقوق عام 1909، وتعلم خلالها أيضا اللغات التركية (العثمانية) والإنجليزية والفرنسية، وخلال تلك الفترة لم يترك الدعوة الإسلامية، فقد كان يجلس لتفسير القرآن في جامع “آيا صوفيا”، كما بدأ مزاولة المحاماة، فذاع صيته لتمكنه من لغات عدة ودفاعه عن الفقراء والمستضعفين.
في أثناء وجوده في إسطنبول، بدأت علاقته بالكتابة الصحفية، فقد نشر عام 1911 عدة مقالات في جريدة “فلسطين” التي كانت تصدر في القدس، هاجم فيها سياسات السلطان محمد رشاد -الذي تولى الحكم بعد انقلاب أطاح بأخيه السلطان عبد الحميد الثاني- وتساهل في عهده مع الهجرات اليهودية المتلاحقة إلى فلسطين، وتسبب أحد هذه المقالات -الذي حمل عنوان “خطر الصهيونية”- في تعرض الصحيفة للمراقبة، وكان مما كتبه فيها “يجب أن تكون وطنيا أولا ثم مخلصا للعثمانيين”.
خلال الحرب العالمية الأولى، عاد إلى فلسطين فأسس هناك “الحزب الوطني العثماني” الذي كان يهدف إلى مواجهة الأنشطة الصهيونية، وفي ذلك الوقت عارض الاستيلاء على المحاصيل الزراعية لتمويل الجيش العثماني، كما كتب قصيدة عن سقوط طائرة عثمانية فوق شاطئ يافا، فنفاه الوالي العثماني جمال باشا إلى قونية مع أخيه شكري.
ومن منفاه بالأناضول إلى القاهرة من جديد حيث انتسب إلى معهد الحقوق الفرنسي لينال شهادة الدكتوراه عام 1919، ويعود مرة أخرى إلى فلسطين ليواصل العمل بالمحاماة ثم يقرر إنشاء جريدة “الجامعة الإسلامية” عام 1932.
كما كان على مدار مسيرته حتى تلك اللحظة، نذر الشيخ صحيفته التي صدرت بشكل يومي لقضيتين رئيسيتين، أولاهما الدعوة لمقاومة الهجرات الصهيونية إلى فلسطين، وإلى مقاومة الانتداب الإنجليزي باعتباره راعيا لتلك الهجرات، والثانية هي الدعوة لفكرة “الجامعة الإسلامية” التي تضم الدول الإسلامية جميعا في كيان تنسيقي يراه بوابة الحل لقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
السنوات الحبلى
كانت هذه السنوات حبلى ببذور ثورة فلسطينية على وشك أن تولد، فقبل عامين من صدور الصحيفة (أي عام 1930)، كان المجاهد السوري الشيخ عز الدين القسام قد وصل إلى حيفا قبل سنوات قليلة بعد رحلة طويلة من المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي لبلاده، وبعدما حط رحاله بفلسطين بدأ محاولة جديدة هناك لتأسيس حركة تهدف لمقاومة الصهيونية والانتداب البريطاني الذي يرعاها قبل أن يحقق وعده له بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود.
“لا نريد بالشرق على أن يكون إسلاميا في سائر نواحي حياته، وإنما نريد إلى أن يتخذ من الإسلام شعارا يجمعه واسما يضمه، كما يضم مثلا التاج البريطاني الأمم المستظلة بظله من غير أن يكون لهذا الضم أثر في إخراج كل شعب عن معتقده وتقاليده، ولكنه الرمز والهدف”
الفاروقي في الافتتاحية الأولى للصحيفة
وقد نجح القسام في تلك المرحلة التي صدرت فيها الصحيفة في تجنيد عدد من الفلاحين وصلوا في مرحلة ما إلى الألف وبدؤوا في أعمال تستهدف منشآت وموارد الاحتلال والوجود الصهيوني في فلسطين، وصار بذلك هدفا رئيسا لسلطات الانتداب البريطاني، حتى أردته قتيلا عام 1935 حين كان عمر صحيفة “الجامعة الإسلامية” 3 سنوات.
كانت الصحيفة قد نذرت نفسها لدعم جهود الشيخ القسام وقضيته، ولما مات أصبحت المصدر الرئيس لنشر تراثه وتجربته ورحلته، واستمرت في حفز الفلسطينيين ليواصلوا المسيرة.
وبمقتل الشيخ القسام مع ملابسات أخرى على الأرض، كانت البيئة قد تهيأت لثورة سميت بالثورة العربية الكبرى في فلسطين عام 1936، وقد استمرت 3 سنوات وشكلت مصدر قلق كبير للسلطات البريطانية، كما شكلت الصحيفة -التي اتهمها الإنجليز بنشر الأفكار المتطرفة- هدفا رئيسا لا بد من القضاء عليه ليتمكنوا من القضاء على الثورة، وبالفعل، أغلقوها عام 1938، قبل أقل من عام من القضاء على “الثورة الكبرى”.
وإذا كانت فلسطين المحور الأول لاهتمام الصحيفة، فإن قضايا العالم الإسلامي والسعي إلى تجميعه وحشد مثقفيه وأدبائه وسياسييه كانت المحور الثاني لاهتمامها.
صحافة مختلفة ورؤية واضحة
والصحيفة -وقد كانت تصدر يوميا في 8 صفحات- لم تكن سياسة خالصة، فهي بوابة أدبية وثقافية وإخبارية، ومنبر لصحافة الرأي يعتليه كتاب بارزون من أنحاء العالم العربي.
إحدى القضايا التي انتبه لها الفاروقي في ذلك الوقت المبكر هو أهمية أن تكون هناك سردية أصيلة ومستقلة لا تعتمد على المصادر الغربية، ولذلك ابتعد عن الاعتماد على برقيات وكالات الأنباء، وشكل فريقا من المراسلين في البلاد العربية ينقلون له الحدث هناك بعيون عربية خالصة.
وقد كان واضحا في افتتاحية العدد الأول لصحيفته الذي حمل عنوان “خط الجريدة” وهو يضع أمام القراء أهدافها، فبعد أن أشار إلى ما يعانيه العالم الإسلامي من هزائم وخذلان، قال: “ولذلك أنشأنا هذه الصحيفة وكل ما نرجوه أن نوفق إلى نفخ روح الوحدة بين أمم الشرق، وإشعارها ضرورة التعارف، فالتآلف، ثم التساند، فالتكاتف، ولما كان شباب الشرق وعنفوانه إنما كان بشباب الإسلام وازدهاره، لا جرم إن كانت السبيل المعبدة إلى هذه الغاية اتخاذ الإسلام رمزا لاجتماعه، وعنوانا لاتحاده، وهدفا ينزع إليه بان للأمم التي تسير لا إلى غاية وتنزع لا إلى هدف قلما تأمن من العثار”.
فكرة الجامعة الإسلامية
ثم يقول في موضع آخر شارحا فكرة الجامعة الإسلامية ووضع غير المسلمين فيها: “ونحن بعد لا نريد بالشرق على أن يكون إسلاميا في سائر نواحي حياته، وإنما نريد إلى أن يتخذ من الإسلام شعارا يجمعه واسما يضمه، كما يضم مثلا التاج البريطاني الأمم المستظلة بظله من غير أن يكون لهذا الضم أثر في إخراج كل شعب عن معتقده وتقاليده، ولكنه الرمز والهدف، ولكنه الشعار والجامعة، فهذا الشرق ما دامت شعوبه يأخذ كلٌ سبيلا ويستشعر شعارا فهيهات أن يجتمع له كيد أو يتم له أمر، وإذا كان الشعار الإسلامي بالمسلمين دينا، فإنما نريده لغير المسلمين رمزا وهدفا، كل له دينه وكل له تقاليده ووحدة الرمز والهدف لا تخرج أحدا ولا تجرح معتقدا بل تذر كلا يعمل على شاكلته، ويأخذ في سبيله موقظا أمته باللسان الذي يختاره مزينا لها ما للتآلف من ثمرة وما للتناكر من مضرة، حتى إذا نضجت الأمم، وفقهت في دينها الوطني واستحالت تلك الفروق إلى أواصر وسمت إلى أن تبيت أرحاما ووشائج، كان من هذا الرمز الإسلامي الشرقي ما يجمع القوى ويود المسعى، وهذا ما تعمل عليه جريدتنا إن شاء الله”.
رحم الله الدكتور الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، فقد كانت صحيفته نموذجا لـ”صحافة الكفاح الوطني”، وقد امتدت به الحياة حتى عام 1958 من دون أن يتوقف عن عمل أو نضال، وخلال تلك الفترة، حاول مرة أخرى إعادة إصدار الصحيفة بعد الحرب العالمية الثانية (تحديدا عام 1949)، لكنها لم تلبث أن أغلقت.