تتمثل إحدى مشكلات صعود الخطاب القومي اليميني المتطرف في أنه لا يكتفي بتمثيل أفكاره التي يحملها، بل يمتد ليؤثر على الساحة السياسية كلها، بما تحمله هذه الأيديولوجية من عدوانية وإقصائية وتمييزية وتحريض على العنف.
وتأثيرها على العملية الديمقراطية هو أنها تضطهد أولئك الذين يعارضونها، وتقمع الأحزاب الديمقراطية واليسارية وحتى الليبرالية، وتأخذهم رهائن سياسيين.
نرى في أوروبا كثيرا كيف تنتشر أفكار اليمين المتطرف العنصرية في خطابات وسياسات الأحزاب التي تبدو معتدلة. ما يرتفع هنا ليس المد القومي، بل التصور الخاطئ لهذه الأحزاب بأنه يمكنها إنقاذ خطابها السياسي عبر تقديم تنازل لذلك التيار المتطرف فلا تفوتها فرصة ربح سياسية.
لكن التنازل أمام العنصرية لا يقتصر أبدا على مرة واحدة، فالأمر أشبه ما يكون بعلاقة مديونية يخضع لها السياسيون في السويد أو غيرها من الدول الديمقراطية الذين يخشون اتخاذ إجراء ضد خطابات الكراهية تجاه المسلمين.
أوضاع مسلمي الهند
الحديث عن هذه الحالة يقودنا أيضا إلى الهند، فما يحدث فيها حاليا يعد نموذجا مشابها لصعود الفاشية اليمينية المتطرفة في أوروبا.
يوم أمس، عقدت منظمة “العدالة للجميع” -وهي منظمة مدنيّة تأسست في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة عام 2001 وتسعى للتعبير لدعم المظلومين والمعذّبين في العالم- بالتعاون مع مجلة “بلاتفورم” (Platform Magazine) لقاء دوليا في إسطنبول حول “مشاكل الأقليات في الهند”.
شارك في هذا اللقاء مسلمون من الهند والولايات المتحدة وبلدان أخرى، وقدموا صورة شاملة لما يتعرض له مسلمو الهند في السنوات الأخيرة من تمييز عنيف ومحاولات تطهير عرقي، رغم أنهم جزء أصيل من نسيج الهند، عاشوا فيها منذ قرون وحكموها لعصور.
قال المشاركون إن حالات الإعدام دون محاكمة والتعذيب والمعاملة السيئة وقمع حرية الاعتقاد والتعبير وصلت إلى آفاق مخيفة، لا سيما بالنسبة للمسلمين، وإن كان يشمل أيضا الأقليات الأخرى في الهند، وفي هذا السياق أفادوا بأن أكثر من 200 كنيسة أحرقت في يونيو/ حزيران الماضي وحده.
يتمثل الجانب الأكثر خطورة لهذه المسألة في أن الخطاب الفاشي والعنصري ضد المسلمين أصبح عاديا، وقد باتت الفاشية احتمالا يمكن أن تنحرف إليه الأحزاب العادية بسهولة. ففي الشهر الماضي مثلا دعا نائب هندوسي في خطابه إلى إبادة 200 مليون مسلم.
يُعتقد أن التعديلات الجديدة في قوانين الهوية الخاصة بالحرمان من الجنسية تستهدف مسلمي الهند، إذ ليس من السهل إثبات جنسية كثير منهم بسبب مشكلة عدم توثيق المواليد
سياسات “هندوسية الهند”
تُظهر سياسات “هندوسية الهند” التي يتم تنفيذها حاليا في إطار التعاون السياسي شبه العسكري المشترك بين حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكم والحركة شبه العسكرية الرئيسية “راشتريا سوايامسواك سانغ” (RSS)، أن التمييز ضد المسلمين يحدث وفقا لفلسفة وخطة محددة. وقد وصف رئيس منظمة “العدالة للجميع” عبد المالك مجاهد هذه العملية بـ “نازية الهند”، وقارن بين السياسات المتبعة في هذا الصدد والنازية بشكل مباشر.
يعتبر هذا التحالف (أو التعاون) أن الهند ملكية حصرية للهندوس فقط، وأن المسلمين والمسيحيين ليسوا جزءا منها ولا يملكون جذورا فيها، ومن أجل تصديق هذا الاعتقاد وإقامة هوية وطنية جديدة على أساس مزاعمهم، لا بد من تحريف التاريخ وعلم الاجتماع.
والحقيقة أن مسلمي الهند لم يأتوا من الخارج، فما حدث أن نسبة كبيرة من الهنود اعتنقوا هذا الدين دون أي إكراه، وبفضل ذلك تأسست دولة وحضارة قوية في الهند استمرت قرونا عديدة، وكانت الهند تحت حكمهم لاعبا مهما على المسرح العالمي.
لذلك، المسلمون في الهند هم ببساطة جزء من الهند ذاتها، وخير دليل على ذلك “تاج محل”، ولكن الحركة الهندوسية العنصرية تحاول تجاهل وجود المسلمين في الهند.
يمكن اعتبار الإبادة الجماعية لـ 200 مليون مسلم (وهو الرقم الرسمي الهندي المعلن، لكن عددهم أعلى بكثير من ذلك) تهديدا فارغا لا يمكن تصديقه، لكن القضية التي كانت مثار قلق لفترة طويلة هي خطة “إعادة تعريف نطاق المواطنة”.
سحب الجنسيات
يُعتقد أن التعديلات الجديدة في قوانين الهوية والخاصة بالحرمان من الجنسية، تستهدف المسلمين في الهند. إذ ليس من السهل إثبات الجنسية بسبب مشكلة عدم توثيق لدى أعداد كبيرة منهم، لا سيما أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية التي تمثل حوالي 70% من سكان البلاد. ففي تلك المناطق يعيش كثيرون -مسلمون وغير مسلمين- دون وثائق رسمية، ففي عام 2000 مثلا تم تسجيل 56% فقط من المواليد في الهند.
هناك العديد من التحديات التي يواجهها المسلمون في هذه الفترة، حيث يستطيع غير المسلمين التسجيل والحصول على هوياتهم بسهولة، بينما يجد المسلمون صعوبة في إثبات هويتهم بسبب العوائق الإضافية المفروضة عليهم. إنهم يجدون أنفسهم في وضع مهاجرين غير شرعيين ويواجهون خطر إرسالهم إلى معسكرات اعتقال.
في هذا السياق، فقد 1.9 مليون شخص هويتهم، وهناك العديد من الأشخاص في معسكرات الاعتقال، ويجري بناء معسكرات جديدة في مناطق مختلفة من البلاد.
تجرى الانتخابات في الهند على مراحل، وهي تُعتبر أطول انتخابات في العالم، حيث جرت أخيرا على 7 مراحل بين 11 أبريل/ نيسان و19 مايو/ أيار 2019. وفي الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب الذي يتكون من 543 مقعدا، حصل التحالف الذي يتزعمه حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي على 349 مقعدا، بينما حصل التحالف الرئيسي المعارض الذي يتزعمه رئيس حزب المؤتمر راهول غاندي على 83 مقعدا.
نحن في فترة الانتخابات ومن المتوقع ألا ينتخب مودي مجددا، ولكن نتمنى ألا تكون هذه العنصرية المتصاعدة في الهند نهجا جذابا ومربحا سياسيا للأحزاب الأخرى، فهذه السياسة تُشوّه سمعة الهند في العالم يوما بعد يوم، ولطالما استمدت الهند قوتها في المراحل الحاسمة من تاريخها، سواء في الحرب الحضارية أو معركة الاستقلال، استمدتها من الاتحاد الهندي الإسلامي.
وبالنسبة لتركيا، فإن المشهد الذي لا ينبغي أن يُنسى عندما يُذكر مسلمو الهند هو تلك المساهمة الكبيرة التي قدمتها نساء هنديات بِعن حليهن للمشاركة في تمويل حرب الاستقلال.