أذكر أني قرأت يوما كلاما للشاعر محمود درويش مفاده أننا، نحن العرب، “محرومون لذة التفرغ”، كلما ظننا أن أوضاعنا قد استقرت، جاءت السياسة لتُشوّش علينا وتفسد أمورنا، فنجد أنفسنا في حلبة الصراع من أجل تحصيل الاستقرار من جديد. ينطبق هذا الأمر على الطالب العربي المسلم في السياق الغربي عموما الذي كيفما كان مجال بحثه يجد نفسه بشكل أو بآخر مدعوًّا للانخراط في السجال السياسي، مجبرا على الانحياز لموقف من المواقف بخصوص العلاقة بين “الذات” و”الغير”، بين العالم الأصلي الذي ينحدر منه والعالم الجديد الذي يسعى إلى الانتساب إليه.
بينما أنا أستمرئ الجولان في خرائط الغرب الفكرية من داخل “شعرية القرن العشرين”، كان العالم من حولي يعج بأحداث وقضايا تستدعي الالتفات إلى الواقع السياسي، أحداث وقضايا تُحَرِّكك وإن كنت حجراً. وقد كان الخطاب الإعلامي في معالجته لهذه الأحداث وهذه القضايا يُشعرني، كما كان يُشعر أبناء جيلي، أنه خطاب يتحرش بالإنسان العربي المسلم ويستهدف هويته. وكان هذا الشعور يستنهضني، في حدود طاقتي ومجال حركتي طبعا، للمنافحة عن هذه الهوية، الأمر الذي فرض عليّ الجمع بين نعمة “الجيوشاعرية” (Geopoetics) ونقمة “الجيوسياسة” (Geopolitics).
قبل التفصيل في موضوع أطروحة الدكتوراه التي شرفني “وايت” بقبول الإشراف عليها، والتي كانت تجسيدا لمحاولتي المزج بين التحليل الجيوشاعري والتحليل الجيوسياسي، لا بد أن أجمل القول في ما كان لهذا الشاعر الفيلسوف من تأثير ليس على مستوى مساري البحثي الأكاديمي فحسب، بل في تمثلي للشعر والتجربة الأدبية وعلاقتهما بالوجود عموما.
إن الجلوس للتتلمذ في “شعرية القرن العشرين” جعلني أشعر بأن في كثير مما كنت أعتبره شعرا مسلبة للعقل، وانصياعا لنزوات نفسية غامضة، وتلذذا بلغة الاستبطان للذات، وإغراقا في المجاز والرمزية بغرض رسم عوالم بديلة عن العالم المعطى. كانت مجالسة “وايت” تُجرِّدني بالتدريج من الذوق والنَفَس الشعريين اللّذَين كان جيلنا يكتسبهما من خلال المحفوظات.
كان حديث “وايت” عن الشاعر الياباني “باشو” وعن تجربة “الهايكو” حديثا يفتح أمامي فضاء شاعريا وجوديا رحبا. وقد بلغ تأثري بفكرة هذا الضرب من القول الشعري درجة كبيرة، بحيث كنت وأنا في طريقي إلى الجامعة كل صباح أمشي كمن به مسٌّ، أُسَرِّع الخطى تارة، وأُبطِّئها تارة أخرى، أحاول أن أخلق إيقاعا خاصا يعكس حالة شعورية يُولدها التفاعل مع العالم الخارجي.
ما زالت بعض المشاهد ترتسم في ذاكرتي، وما زال شعوري أمامها حيا. أذكر وأنا أقطع الحي اللاتيني آتيا من “شارع لِيلْ” كيف كانت تستوقفني مكتبة اللغات الشرقية، بحجمها الصغير ودورها التاريخي الكبير؛ وكيف كانت تستوقفني العبارات التي كان يكتبها عشاق المغني الفرنسي الشهير آنذاك “ألان غينسبورغ” (Alain Gainsbourg) على جدار منزله ليلا؛ و”مقهى الحشاشين”، وغيرها من الأسماء الغريبة والعجيبة. كانت كلها تستحثني للنطق شعرا لوصف حالة شعورية أو تسجيل موقف دهشة أمام منظر من المناظر.
وقد كان من عادتي، قبل أن أقتنص فرصة لقراءة تجاربي الشعرية الوجودية أمام “وايت”، أن أتقاسم هذه التجارب مع “باريس”، زميلي الأمريكي الشاعر، الذي كان يجمعني به التبرم من دروس “مادام لافابر” والشغف بالكلمات وأصولها. كان “باريس”، تحت تأثير “وايت”، يبحث عن سبل تخليص لغته من التعقيد والتكلف. وكنت، تحت نفس التأثير، أنظر في تراثي الشعري الموروث نظرة فاحصة تجعلني أستهجن، على سبيل المثال، قول الشاعر العربي: إذا بلغ الفطام لنا صبي .. تخرّ له الجبابر ساجدينا.
تشهد دفاتر أشعاري أن حسا شعريا جديدا كان يولد بداخلي، حسا يخرجني من عوالم الذات المبهمة باتجاه حالة صحو في الوجود. أذكر أني بعد ساعة قضيتها ذات يوم مشمس، مستلقيا في حديقة معشوشبة، أبحث عن البرسيم ذي الأوراق الأربعة (Four-leaf clover)، هذه النبتة الصغيرة التي تجلب الحظ كما هو شائع في التراث الشعبي الغربي، انتهيت إلى القول بأن الحظ والسعادة ليسا في أن تجد هذه النبتة بل في أن تقضي ساعة وأنت تفلي الأرض.
وفي صباح من أصباح منطقة “طريق الجبل” (Bergstrasse) بألمانيا، بينما أنا أجلس خلف النافذة أمام منظر الثلج في الخارج يكسو الأرض بياضا، كانت أشعة الشمس البيضاء تتسرب لتخط أشكالا غريبة فوق أوراقي. كتبت حينها أبياتا أصف منظر هذه الأشكال، ثم كيف أني “خجلت حتى سقط من يدي القلم”. خجلت لأني كنت أتهيأ لاستبطان ذاتي بحثا عن معانٍ شعرية غامضة. وقد كانت آخر أبيات أبعث بها إلى “وايت”.
كان لمجالسة “وايت” ولنظريته في الأدب والشعر والفنون عموما دور كبير في إخراجي عن مداري وإدخالي في صمت، أستشرف قولا شعريا من طبيعة أخرى، قولا لا علاقة له بالتدفق العاطفي الذي يشي برغبة في بسط الذات على العالم الخارجي، بل قولا يجعلك تخرج من ذاتك لتكتشف العالم كما هو. كنت أجد في قراءة أعمال شعراء أمثال “غوته” و”والت ويتمان”، دائما تحت تأثير “وايت” الخفي والجلي، ما يدفعني إلى القطع مع مرحلة المراهقة الشعرية، حيث كنت أستسهل الكلام، معتقدا أنه يكفي أن تكشف الغطاء عن عوالمك الباطنية المبهمة حتى تصير شاعرا.
كان “وايت” و”غوته” و”والت ويتمان” من بين أبرز الأدلاء الذين كنت أستهدي بهم في خرائط أوروبا الفكرية، ومنهم تعلمت أشياء ما تزال تلازمني إلى اليوم. عن “وايت” أخذت أن التجربة الأدبية يجب ألا تقف عند حدود الفضاء “النفسي المجتمعي” (Psycho-social)، بل يجب أن تتعدى هذا الفضاء لتكثف إحساس الإنسان برحابة الكون. فالأدب تجربة كونية في الأساس.
وعن “غوته” أخذت أنه على الشاعر أن يكون فيلسوفا، أي أن تكون له طاقة فكرية وعلمية؛ فالشعر عنده يستوعب التجربة الإنسانية في شمولها؛ غير أن الشاعر الحقيقي هو الذي يُوفَّق في محو آثار التفلسف في قصيدته. وأما حين تقترن التجربة الشعرية بالعواطف فقط، فعندها يُفْتح باب التفاهة على مصراعيه ويتحول القول الشعري إلى ضرب من الهدر والهراء والهذيان.
ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بقصيدتين للشاعر “والت ويتمان” (Walt Whitman) أعتبرهما قمة في تجسيد روح التجربة الأدبية الشعرية. القصيدة الأولى وهي (Starting from Paumanok) والقصيدة الثانية وهي (Facing West from California’s Shores). ففي القصيدة الأولى يحكي “ويتمان” عن هجرته شوارع المدينة المكتظة التي كان يحبها، ثم اختلائه بنفسه في الطبيعة، وبعدها ينتقل إلى وصف عظمة هذه الطبيعة كما تتجلى في حيوانات وأنهار وأشجار يبرع في الإشارة إليها، لينتهي في الأخير إلى التلفظ بلفظة واحدة: (My amaze)، أو “يا لدهشتي”. بهذه القصيدة يجسد “ويتمان” حقيقة التجربة الشعرية في علاقتها بالخلوة والتأمل وبالدهشة في الكون التي يتلوها الصمت.
في القصيدة الثانية يقف “ويتمان” في أقصى حدود الغرب، على شواطئ كاليفورنيا، لينظر غربا، أي ناحية الشرق مجددا. يقول “ويتمان” أن العقل البشري الذي أكمل دورته حول العالم، من حضارة الصين إلى الهند إلى اليونان والجزيرة العربية، ثم إلى شمال أوروبا، قبل أن يصل إلى أميركا، هذا العقل لم يجد ضالته بعد، ولهذا يحتاج اليوم إلى أن يحمل عصا التسيار ليطوف العالم مجددا، بحثا عن بقايا الحكمة التي فاته إدراكها خلال الرحلة الأولى. فالقصيدة تجسد قمة الإدراك لمضايق العقل البراغماتي الحديث كما تتجسد في الثقافة الأميركية، وضرورة الانفتاح على الإرث الحكمي خارج حدود الغرب.
ماذا عن “توماس هاردي”؟ بقدر ما كانت تُوَرّثني قراءة قصائده الجميلة قدرا كبيرا من الانشراح؛ كنت أقرب ما أكون إلى انقباض وأنا أتهيأ لعرض نتائج أبحاثي وقراءتي في هذه القصائد على “مادام لافابر” التي كان صدرها لا يتسع لشطحاتي الفكرية على الحدود بين الثقافة العربية والثقافة الغربية عموما. وقد بلغ عندي الانقباض منتهاه حين قابلَتْ ما كنت أعتبره أهم نتيجة من نتائج قراءتي بنوع من التلكؤ لم أملك معه إلا أن أوصي نفسي بالصبر والتجلد.
لقد اكتشفت في شعر “هاردي” لازمة لا تخطئها الأذن الموسيقية. تكاد لا تخلو قصيدة من قصائده من (me)، ضمير المتكلم في حال وقوع الفعل عليه. فقد أصبحت وأنا أقرأ هذه القصائد أتوقع هذا الضمير كما تتوقع الأذن النوتة الأساسية في المقام الموسيقي، بدونها لا تستقيم هندسته النغمية. وكان استعمال “هاردي” لـ(me) يشي دائما بنوع من الانكسار النفسي المرفَق بحنين عاطفي غامض (emotional longing).
كانت الشواهد التي سقتها للتدليل على العلاقة بين خصائص هذا الضمير الصوتية وبين المحتوى العاطفي شواهد كثيرة ومفحمة. وهذا ما جرأني على التمادي إلى حد القول بأن الكسر في اللغة (i:) حين يكون مُرفقا بغنة، أو الأصوات التي تخرج من الخيشوم، يفيد الحنين والحزن والانكسار في اللغة الإنجليزية كما في اللغة العربية، مستشهدا بقصيدة محمود درويش عن الحنين إلى “أمي” وقهوة “أمي” ولمسة “أمي”… على “صدر يوم”… هنا وصل السيل الزبى. نفد صبر المسكينة “مادام لافابر”. كان ذلك فراق بيني وبينها.
جاء الوقت لإماطة اللثام عن الوجه للبحث في أصل المشاكل بين الشرق والغرب… (يتبع).