الأغوار الفلسطينية- كعادة عائلته التي حافظ عليها رغم تغيّر الحال، استقبلنا الفلسطيني راضي محمد فقها، مختار خِربة “عين الحِمّة” في الأغوار الشمالية، في مكان مخصص للضيوف مفروش ببساط قديم ويتوسطه موقد قهوة مُرة. وقال معتذرا عن ضيق المكان “كانت مضافة أبي تتسع لمئات الضيوف، ولكن الاحتلال ضيق علينا بيوتنا”.
يقصد المختار المُكنى بـ “أبي مهيوب” ما آل إليه حال قريته بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية في حرب عام 1967 وسيطرته عليها كاملة بما فيها مناطق الأغوار (في السفوح الشرقية للضفة) ومنها “خربة الحِمّة” (الخربة تجمع سكاني صغير).
يقول أبو مهيوب وهو يروي واقع الحياة في خربته للجزيرة نت “ما نعيشه اليوم هو ما كان مع بداية الاحتلال، تنكيل وترهيب لإجبارنا على الرحيل”.
مشاهد من “النكسة”
يذكر أبو مهيوب (77 عاما) جيدا اليوم الذي عرف فيما بعد بـ “النكسة” (يوم سقوط الضفة بيد الاحتلال) حين أفاق وعائلته على صوت دوريات الاحتلال تجوب شوارع المنطقة وتتمركز على الحدود، مشيرا من مجلسه إلى المنطقة المقابلة لقريته الفلسطينية حيث الأراضي الأردنية واضحة للعيان.
يرافق هذا المشهد في ذاكرته أصوات إطلاق الرصاص والانفجارات وجنود يصرخون “روخوا عند خسين.. عند خسين” (اذهبواعند حسين، ويقصدون ملك الأردن حينها) لتخويف السكان ودفعهم للهجرة إلى الأردن. ويقول مفاخرا “نزحت معظم العائلات إلى الجانب الآخر من الحدود، وعائلتي أيضا، أنا الوحيد الذي لم أقطع هذه الحدود، بقيت في الجبل أحرس الماشية”.
وبين ما حملته ذاكرته عن بداية الاحتلال وبين ما تواجهه اليوم: تتشابه الأحداث، فقبل أيام تعرّض حفيده “آدم” (عمره عام واحد) للاختناق بعد اقتحام جنود الاحتلال الخربة لحماية المستوطنين، وإطلاق وابل كثيف من قنابل الغاز.
إسرائيل دمرت 42 تجمعا بالأغوار عام 67
وخربة “الحِمّة”، التي تعود تسميتها لكثرة ينابيع المياه الساخنة فيها، واحدة من 42 تجمعا سكانيا دمّرتها إسرائيل فور احتلالها الأغوار بحرب 1967، بعضها أعاد السكان بناءه والآخر مُحيت آثاره بالكامل. والبيت الوحيد الذي لم يهدم في “الحمة” وقتها كان منزل والد أبو مهيوب، والسبب أنه كان الأسرع بالعودة إليه، كما أن عائلته لم تكمل أسبوعا في نزوحها إلى الأردن.
وكما عائلة فقها، عادت 8 عائلات أخرى من أصل مئة كانت تسكن الخربة، ولكنهم عاشوا في الكهوف خوفا من تنكيل الاحتلال بهم. وبعد استقرار الأوضاع عادوا إلى أراضيهم، وكانت بيوتهم قد سويت بالأرض فبنوها من جديد وأحيوا القرية التي تحولت إلى خربة صغيرة.
ولم تكن عودة العائلات مجانية، فقد دفع العديد منهم الثمن من دماء أبنائهم، كما يقول المختار “أسهل قرار كان عندهم القتل” ويشير إلى موقع يبعد أمتارا عن مكان استقبال الضيوف، حيث قتل جنود الاحتلال 3 شبان بعد عودتهم إلى الحمّة.
ما يزال يذكر أسماءهم: يوسف علي وعقاب سليمان وذيب محمود، وجميعهم كانوا يحاولوا نقل القمح من منازلهم قبل هدمها لعائلاتهم التي لجأت إلى الكهوف في الجبال بعد عودتها من الأردن.
“كي لا يموت لاجئا”
سحر القاسم، زوجة المختار (75 عاما)، كانت عائلتها أيضا من العائدين بعد 45 يوما من النزوح، وقالت “خاف أبي أن يموت لاجئا في الغربة فقرر العودة رغم القتل والتدمير هنا”.
وفي يوم النزوح، قطعت سحر مع عائلتها الحدود مشيا على الأقدام تحت أزيز الرصاص الذي أطلقه جنود الاحتلال على كل من يشتبه به قريبا منه، كحال السيدة التي قُتلت أمامها وهي تحمل “لجن عجين” من الألمنيوم، انعكست أضواء دورية عسكرية إسرائيلية، فأطلقوا عليها النار وتُركت على الأرض “ولم يتوقف أحد لينظر خلفه خوفا من القتل”.
اختبأت عائلة القاسم في الجبل، وعلى مسامعهم كانت أصوات إطلاق النار وصراخ الشبان الذين كانوا يقومون بجمعهم وإعدامهم غير بعيدة. وقالت “عشنا أيام رعب حقيقية”.
بعد شهر تقريبا أعلنت قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت السماح للسكان بالعودة إلى قريتهم. وبدأت عملية إحصائهم. وفي تلك الأيام “تغير كل شيء” كما تقول المواطنة، وانقسمت العائلات بين مَن عاد إلى الخربة وتم احصاؤه وتسجيله “مواطنا” وبين من صنّفوا “نازحين” خارج الضفة ولم يسمح لهم العودة إلى فلسطين مواطنين حتى الآن، ومنها شقيقتها التي بقيت مع جدتها في الأردن.
وتستذكر سحر بداية الاحتلال وإجراءات الطوارئ التي فرضها وحاول بها إثبات وجوده بالقوة، ومُنع خلالها كل السكان من الحركة لأيام، وكل من خالف التعليمات أطلقوا عليه الرصاص. وقالت “تغيّر الحال، أصبحنا نعيش تحت احتلال وبنادق الجنود مصوبة على رؤوسنا”.
هدم وملاحقة
بعد سنوات من الخوف عاشها السكان، بدأت الأوضاع تهدأ قليلا في خربة “الحِمّة” كما غيرها من مناطق الأغوار، حيث تزوّج راضي فقها (أبو مهيوب) ووسّع بيته بإضافة بناء جديد من الطوب بتصريح من سلطة الاحتلال.
ولكن اطمئنان من تبقى من أهالي “الحمّة” لم يدم طويلا، ففي العام 1981 بدأت إسرائيل ببناء المستوطنات في الأغوار ومن بينها “ميخولا” التي صادرت عشرات الدونمات من “الحِمّة” وبدأت مرحلة جديدة من التضييق على السكان.
في نفس العام هدم الاحتلال منزل فقها الجديد (التوسعة) ثم أعاد هدمه عام 1986 وبعدها عام 2020، وكل مرة كانت العائلة تحاول إضافة غرف بسيطة من الطوب المسقوف بالصفيح “الزينكو” لتوسيع سكنها المبني من الطين القديم وتلاقي المصير ذاته.
واليوم، تهدد إسرائيل عشرات المساكن المبنية من الصفيح في “الحمة” بالهدم، كما يقول الباحث في قضايا الاستيطان والناشط بالأغوار عارف دراغمة.
يوضح دراغمة في حديثه للجزيرة نت أن الهدم “إحدى وسائل التضييق على السكان وإجبارهم على الرحيل” وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة حيث شدد الاحتلال الخناق على المنطقة بشكل كبير.
ومؤخرا، أغلق الاحتلال الجهة الغربية للخربة بإعلانها منطقة عسكرية ممنوع الدخول إليها. ومن الجنوب بنى بؤرة استيطانية، وحصر سكان الحِمّة، الذين لا يتجاوز عددهم اليوم 250 فلسطينيا، على 7% فقط من أراضيهم التي صودرت لأغراض عسكرية وبحجة اعتبارها محميات طبيعية ومواقع أثرية.
وكل هذه الأراضي تسربت للمستوطنين فيما بعد، وأقاموا عليها بؤرا صغيرة تمهيدا لتحويلها لمستوطنات. ولكن ما يعرقل مخططاتهم ويقف حجر عثرة أمامها حتى الآن هو منزل “أبو مهيوب” الطيني، الشاهد الوحيد على الوجود الفلسطيني قبل 1967 بهذه المنطقة.