يوم الاثنين الرابع من يونيو/حزيران 1967، طُلب من القائد العسكري المصري اللواء حينها سعد الدين الشاذلي الالتحاق صبيحة اليوم التالي بمطار فايد لحضور لقاء لكل قادة جبهة سيناء على الساعة 8 صباحا بحضور نائب القائد العام للقوات المسلحة المصرية المشير عبد الحكيم عامر.
وكان يرأس قيادة جبهة سيناء حينها الفريق عبد المحسن مرتجي، وكان حينها وزير الدفاع شمس بدران الذي يوصف بأنه كان اليد اليمنى للمشير عامر.
اللواء الشاذلي -الذي كان يقود حينئذ كتيبة دبابات في أقصى منطقة من سيناء وأقرب منطقة إلى فلسطين- اضطر بسبب بعد المسافة إلى الانتقال إلى مطار فايد صبيحة الخامس من يونيو/حزيران على متن مروحية عسكرية، وعندما وصل وجد قادة جبهة سيناء مجتمعين ينتظرون المشير عامر.
نائب الرئيس أيضا
في التوقيت نفسه تقريبا، وعلى الساعة 8 صباحا كان حسين الشافعي -نائب رئيس الجمهورية وأحد الضباط الأحرار البارزين- داخل طائرة خاصة يرافق فيها الفريق طاهر يحيى نائب رئيس وزراء العراق حينها ( تولى رئاسة الحكومة في بلاده لاحقا) ومجموعة من الوزراء والقادة العسكريين المصريين والعراقيين إلى المطار العسكري نفسه، حيث كان يفترض أن تنزل بهم الطائرة في مطار فايد على الساعة 8.45 صباحا.
وأكد الشافعي للجزيرة في برنامج شاهد على العصر أن الزيارة في حد ذاتها لم تكن ذات أهمية، بل كانت مجرد زيارة بروتوكولية، يزور فيها برفقة الوفد العراقي كتيبة عسكرية عراقية موجودة بصفة رمزية في المطار العسكري، وكان من بين أفرادها الملازم فيصل، نجل الرئيس العراقي حينئذ عبد الرحمن عارف.
وشرح الشافعي كيف أنهم صادفوا في طريقهم 3 طائرات عسكرية إسرائيلية اعتقد هو ومرافقوه في البداية أنها طائرات عسكرية مصرية جاءت لتحمي طائرتهم وطائرة الحرس التي ترافقهم، احتفالا بضيوف مصر.
الغريب أنه في التوقيت نفسه تقريبا، وبالضبط على الساعة 8.30، كانت طائرة المشير عامر قد انطلقت هي أيضا في طريقها إلى مطار فايد العسكري للقاء قادة جبهة سيناء.
وبدأ الهجوم
وبينما كانت طائرة حسين الشافعي هبطت لتوها في مطار فايد، وطائرة المشير عامر ما تزال في الجو، شرعت المقاتلات العسكرية تقصف المطارات المصرية كاملة، بما فيها مطار فايد، ودمرت 209 طائرات من أصل 340 طائرة مصرية، حسب البيانات الإسرائيلية، ناهيك عن تدمير مدرجات المطارات العسكرية.
واضطرت طائرة المشير للعودة إلى القاهرة، ونجت من التفجير في الجو، بينما لم تحظ طائرة الحرس المرافقة للطائرة التي تقل حسين الشافعي والمسؤول العراقي بنفس المصير، حيث فجرتها الطائرات الإسرائيلية وهي في الجو، ونجا الشافعي ومن معه بأعجوبة، إذ أخطأتهم القذائف الإسرائيلية.
ووصف الشافعي -في حديثه مع الجزيرة- تفاصيل ما جرى لحظتها، وقال إن القذائف الإسرائيلية سقطت على مسافة 50 مترا تقريبا من الطائرة، وبدأ ركابها يتزاحمون على باب الطائرة -حتى قبل تثبيت السلم- ليقفزوا منها للنجاة بأنفسهم من المصير المحتوم، في حين فوجئ هو بأن الطائرات العسكرية المصرية كانت مرصوصة الواحدة بجانب الأخرى كأنها معدة للمذبح الآلي، على حد تعبيره.
انفجارات في كل مكان
وحكى الفريق سعد الدين الشاذلي -من جهته في حديثه مع الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر”- أن كل القادة العسكريين بجبهة سيناء برئاسة الفريق مرتجي كانوا مجتمعين في مبنى واحد بمطار فايد ينتظرون المشير عامر، وفوجئوا بأصوات الانفجارات التي هزت المطار معلنة بدء حرب 67 التي اندلعت ولا يوجد قائد مصري واحد على رأس قواته.
ولو أن إسرائيل ركزت القصف على مطار فايد ونجحت في قتل كل قادة جبهة سيناء المجتمعين في مكان واحد، ومعهم نائب رئيس مصر والمسؤول العراقي البارز، ثم نائب القائد العام للقوات المسلحة المصرية المشير عامر؛ لشكل ذلك بالنسبة لها مكسبا مهولا لم تكن تحلم بتحقيقه.
وشدد الشاذلي خلال حديثه مع الجزيرة على ضرورة فتح تحقيق شامل لكشف تفاصيل هذه الأحداث المتتالية “الغريبة”، مشددا على أن اندلاع حرب 67 من دون أن يكون أي قائد عسكري بجبهة سيناء على رأس قواته مسألة خطيرة كان لا بد من التحقيق فيها.
عبد الناصر كان يعلم
وما يزيد الأمر إثارة هو أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان على علم بتوقيت اندلاع الحرب بعدما أبلغه سفير مصر بالاتحاد السوفياتي الراحل مراد غالب، الذي أكد ذلك في مذكراته وفي حديثه للجزيرة، ورئيس يوغوسلافيا وقتها جوزيف تيتو، الذي كان على علاقة جيدة بالرئيس المصري.
بل إن عبد الناصر أخبر القادة العسكريين بأن إسرائيل ستبدأ هجومها يوم الخامس من يونيو/حزيران 1967، وطلب منهم الاستعداد لتلقي الضربة الأولى لإظهار إسرائيل في صورة المعتدية، واتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية المعدات المصرية وتخفيف آثار الضربة الأولى.
لكن رغم ذلك، جُمع قادة جبهة سيناء وكبار القادة السياسيين والعسكريين في مطار فايد صبيحة يوم الهجوم، وتُركت القوات في سيناء من دون قيادة، في وقت كان يفترض فيه أن تتخذ القيادة العامة العسكرية احتياطاتها للحفاظ على الجيش المصري ولا تجمع قادة جبهة سيناء في مكان واحد صبيحة يوم الهجوم، وكانت لديها التأكيدات من أعلى هرم الدولة أن إسرائيل ستضرب في ذلك التوقيت.
وحسب المصادر المصرية، فإنه من الواضح أن الرئيس المصري الراحل لم يكن يتوقع أن تكون الضربة قاصمة ساحقة بتلك الطريقة، وربما ظن أن الجيش أخذ احتياطاته لتخفيف أثر الهجوم الأول، وكان من جهته يخطط للاستفادة من الاعتداء الإسرائيلي لتحقيق مكاسب سياسية خارجية وداخلية، لعل أهمها تحجيم دور المشير عامر، واستعادة السيطرة على الجيش.
مطالب بالتحقيق
لكن الذي وقع هو أن إسرائيل نجحت في تحطيم مقدرات الجيوش العربية وأسر آلاف الجنود، والسيطرة على سيناء والجولان، وعلى فلسطين كاملة بما فيها القدس الشريف، وذلك إلى جانب تدمير طيران وآليات دول الطوق.
ويعد جمع قادة مصر والعراق صبيحة الخامس من يونيو/حزيران 1967 بمطار فايد من أكبر الألغاز التي ميزت هذه الحرب، وما فتئ عدد من القادة العسكريين المصريين -ومنهم الفريق سعد الدين الشاذلي- ينادون بفتح تحقيق لكشف كل تلك الألغاز، على أن يشمل التحقيق أيضا الألغاز التي صاحبت حرب 73 هي الأخرى.
لكن حتى الآن لم يجر أي تحقيق، في وقت بادرت فيه إسرائيل إلى إنشاء لجنة تحقيق ترأسها القاضي شمعون أغرانات بعد هزيمة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهي اللجنة التي أصدرت تقريرا كشف عن الأخطاء التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي إبان حرب العاشر من رمضان.