في أقصى شمال الأرض، تحوّلت غرينلاند من جزيرة نائية سكنها الصمت إلى مسرح تتقاطع فيه الجيولوجيا بالسياسة، والعزلة بالطموح، وسط أطماع دولية تتنازع على طبيعتها البكر وثرواتها الكامنة.
وفي تحقيق خاص ضمن سلسلة تقارير قناة الجزيرة عن التنافس العالمي على المعادن النادرة، يصحبنا مراسل القناة محمد البقالي إلى قلب هذه الجزيرة النائية، ليكشف عن تفاصيل تُروى لأول مرة عن معادن دفينة تحت الجليد، تحوّلت إلى محور تنافس بين دول كبرى، على رأسها الولايات المتحدة والصين.
وتتمثل هذه المعادن في الليثيوم والكوبالت واليورانيوم، التي تُعدّ اليوم القلب النابض لصناعات المستقبل، هي الوقود الجديد الذي يُشعل صراعات الجغرافيا السياسية.
وفي حديثه للجزيرة، يتذكر البحّار “إريك بالو شيكوبسن” الحظة التي تحوّلت فيها حياته، حين دله الجيولوجيون على ترسّبات للذهب قرب مكان إقامته.
وبدت له البداية أشبه بحلم وردي: “ظننت أنني سأصبح غنيا”، يقول وقد علت نبرته نغمة حسرة. لكنه، مثل غرينلاند، وقع في فخّ الوهم.
مردود لا يستحق
اكتشف “شيكوبسن” الذهب بالفعل، لكنه أدرك أن مردوده لا يتجاوز دولارا واحدا في الساعة، فلم يكن الكنز كما تصوّره.. بل لعنة “حمى الذهب” التي قلبت سكينته إلى خوف وهوس.
هذه القصة، رغم خصوصيتها، تتكرر بتفاصيل مختلفة على امتداد الجزيرة، فالاهتمام العالمي بغرينلاند لا يعود فقط إلى جمالها الطبيعي أو تاريخها الفايكنغي، بل إلى ما تُخفيه جبالها من معادن تُستخدم في صناعة السيارات الكهربائية، وتكنولوجيا الطاقة النظيفة، والأنظمة الدفاعية الحديثة.
وهو ما يجعل السؤال الذي طرحه البقالي على كبير الجيولوجيين توماس في يوم عاصف بالغ الدلالة: ما الذي يجعل هذه المعادن نادرة؟ ولماذا تُثير كل هذا التنافس الدولي؟
أجاب توماس ببساطة العالم الواثق: “ليست الندرة في عددها، بل في صعوبة استخراجها، وفي الكلفة البيئية والسياسية لذلك”. فالمعادن النادرة موجودة في أماكن متعددة حول العالم، لكن غرينلاند تملك ما هو أكثر من الكمية: تملك الجودة، والتنوّع، والأهم التوقيت الجيوسياسي المناسب.
إلا أن تلك الثروة لا تخلو من التبعات، فبينما تطمح الحكومات الكبرى إلى مدّ نفوذها داخل الجزيرة، يخشى السكان المحليون أن تتحوّل أرضهم إلى ضحية جديدة لعالم لا يعرف سوى لغة المصالح.
انقسام داخلي
ويبدو أن موقف السكان الأصليين، الذين عاشوا لقرون على هامش هذه الثروات دون أن يتدخّلوا فيها، بدأ يشهد انقساما داخليا، فبينما يرى البعض في الاستثمارات الخارجية فرصة للنهضة الاقتصادية، يحذّر آخرون من كارثة بيئية وتهديد لهويتهم الثقافية.
وقد اشتد هذا الجدل عندما أبدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبته العلنية في “شراء” غرينلاند من الدانمارك، وأثارت الفكرة دهشة العالم، لكنها لم تكن مجرّد نكتة سياسية.
فالإدارة الأميركية آنذاك كانت مدفوعة برؤية إستراتيجية تنظر إلى غرينلاند كمفتاح لموارد نادرة، وكنقطة ارتكاز جيوسياسية في الشمال القطبي، حيث تتسابق الدول لبسط النفوذ في المناطق المتجمدة.
ولا يكتمل المشهد دون الإشارة إلى الصين، التي دخلت بدورها على خط المنافسة، مقدّمة عروضا سخية للتنقيب والتعدين، لكن الجزيرة، التي تسعى للحفاظ على توازناتها الدقيقة، تجد نفسها محاصرة بين القوى الكبرى، في حين تنظر شعوبها إلى هذا الصراع بشيء من الريبة والأسى.
“نحن لا نريد أن نُستغل”، يقول أحد السكان المحليين الذي يضيف: “نريد تنمية حقيقية، تحفظ بيئتنا وثقافتنا، ولا تجعلنا أدوات في لعبة الكبار”.